البحث عن «سحر الدولة»
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 11 سبتمبر 2010 - 12:03 م
بتوقيت القاهرة
كنت فى زيارة مؤخرا إلى معهد دراسات التنمية بجامعة ساسكس بالمملكة المتحدة، قضيت فى المعهد منذ عقد من الزمن عاما كاملا للحصول على درجة الماجستير، الدنيا تغيرت هناك. أقسام جديدة، مئات المؤلفات، مواقع إنترنت متنوعة، المكتبة صارت أكثر تنوعا واتساعا. فى قسم خاص تحت عنوان «كتب وردت حديثا»، وجدت كتابا رقيق الحجم، مؤلفه كاتب أمريكى ملء السمع والبصر هو «فرانسيس فوكاياما»، صاحب الكتابات الخاصة بانتصار الرأسمالية، والعولمة، ورأس المال الاجتماعى. آراؤه فى كثير من الأحيان موضع جدل، وأحيانا رفض، ولكن الكتاب صغير الحجم الذى أتحدث عنه يتناول موضوع «بناء الدولة»، وكثير من الآراء التى وردت فيه تمثل خروجا عما كان يروج له فوكاياما نفسه من تبشير مفرط بالعولمة، وتجاوز لحدود الدولة ذاتها.
يقول فوكاياما إن فشل أو ضعف الدولة أدى إلى تفاقم مشكلات إنسانية كبرى من الفقر إلى انتشار مرض الإيدز وأخيرا تفشى الإرهاب.
من هنا يتعين أن نعطى أولوية خاصة لإعادة بناء الدولة. وفى رأيه أن الدول النامية تعانى إشكاليات كبرى أبرزها: نقص الابتكار فى صنع السياسات العامة، وعدم توافر القدرات البشرية القادرة على التطبيق الكفء لهذه السياسات. وهناك أربعة مجالات أساسية لبناء الدولة هى البناء التنظيمى، الشرعية السياسية، الحكم الرشيد، وأخيرا تطوير ثقافة ناهضة فى المجتمع. ودلل على ذلك بأن الخبرة اليابانية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية لم تبزغ فيها الكفاءة المؤسسية من الأخذ بقواعد تقنية أو فنية فقط، ولكن أيضا نتيجة الثقافة الناهضة التى بثتها النخب السياسية والإدارية التى تولت مقاليد الأمور فى المؤسسات العامة.
القضية التى يطرحها الكتاب، وكتابات أخرى مشابهة، هى إعادة بناء مؤسسات الدولة. وهى المؤسسات التى تشعر المواطن ليس فقط بأن هناك دولة تستجيب لمطالبه، ولكن بأن هناك انتظاما فى الحياة اليومية. هذه إشكالية كبرى اليوم فى المجتمع المصرى. المشكلات الحياتية تزداد، وتتفاقم، وتحولت إلى مصدر تعاسة مستمرة للمصريين.
فى مرحلة سياسية اعتبرت «البنية الأساسية» أحد الإنجازات الرئيسية، من مياه، وكهرباء، وغاز، وتليفونات، وخلافه، وقد تحقق بالفعل الكثير من ذلك، عادت مشكلات المرافق تذكر المرء بأن مؤسسات الدولة لم تعد قادرة على سد احتياجاته. كهرباء تنقطع، مياه تغيب، صرف صحى لم يدخل قرى ومناطق بأكملها، ورغيف خبز يحصل عليه المواطن بشق النفس، واختناقات مرورية، وعنف فى الشارع، ولوحة نادرة تسرق من متحف. مشاعر الترصد الدينى فى ارتفاع لا تفلح معها موائد الوحدة الوطنية، بل سياسات عامة قادرة على تحقيق المساواة.
ومما يزيد الطين بلة أن التفسيرات التى تُطرح لتبرير هذه الإخفاقات تؤكد ضعف وترهل الدولة ذاتها مثل الخلافات الوزارية ـ الوزارية، وعدم القدرة على التنبؤ بتزايد الاستهلاك المحلى من المرافق الأساسية، ومحدودية القدرة على حسم قضايا فنية بحتة فى انتظار التوجيهات الرئاسية، وغياب الابتكار فى حل المشكلات الاجتماعية والدينية الخ. حالة من العجز لا نعتمد فيها على ما ينشر فى صحف المعارضة، وما تطرحه القنوات الفضائية الخاصة، ولكن على ما ينشر فى الصحف الحكومية ذاتها.
عشوائية وفوضى العاصمة هى دليل حى ملموس على ترهل أجهزة الدولة التى لم تعد تقدم خدمات جادة للمواطنين، وتستجيب لمشكلاتهم، وهو ما يستوجب إعادة التفكير فى بناء مؤسسات وأجهزة الدولة أو ما يسميه البعض «اختراع الحكومة». وفى الوقت الذى تكفلت فيه ثورة الاتصالات بحل مشكلة التواصل بين الأفراد عبر «الهاتف المحمول»، الذى تتباهى شركات المحمول بما حققته من إنجازات، لم يعد ممكنا للعولمة الكاسحة أن تحمل المياه النقية، والكهرباء، وأنابيب الصرف الصحى إلى المواطن ليس فقط فى القرى والنجوع ولكن فى قلب المدن الكبرى، ومنها العاصمة القاهرة.
الناس تصرخ بحثا عن الدولة. لم يعد «سحر السوق» يشبع الناس، بل كثرت الأصوات ليست فقط فى مصر، أو فى المجتمعات الأخرى الأقل تقدما، ولكن فى قلب الدول الصناعية الرأسمالية. الكل الآن، شرقا وغربا، يتحدث عن أهمية الدولة. تلاشت مصداقية الخطابات المبشرة بالعولمة الكاسحة للحدود القومية للدول التى روجت فى التسعينيات من القرن العشرين. أيقن الجميع أن «ماكدونالدز»، «محطة سى إن إن الإخبارية»، و«ماكروسوفت» لن يحل محل الدولة. اليوم تتدخل الدولة فى أعتى الدول الصناعية الرأسمالية لتنظيم حركة السوق، وتقوم البيروقراطية الحكومية بحماية المجتمعات الصناعية من مغبة الأزمات الاقتصادية.
وتقدم الدول الاسكندنافية مثالا مهما حول حجم ومساحة وجود الدولة. إذ تتغلغل الدولة فى شئون المجتمع من خلال تقديم الخدمات والمنافع العامة للمواطنين، وتقيس حساسيتها بمدى الاستجابة لاحتياجات الأفراد. ولم يقترن تغلغل الدولة فى المجتمع بالفساد، بل على العكس كشف تقرير البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة عام 2002م أن الدول الاسكندنافية على مستوى العالم هى الأقل فسادا، والأكثر اهتماما وصونا لحقوق الإنسان، والأوفر احتراما لحكم القانون.
الدولة المصرية لها سحرها الخاص لدى المصريين، لمركزيتها القديمة، وارتباطها التاريخى بضبط نهر النيل، لكن هذا السحر بات يتبدد تحت تلاحق مظاهر إخفاق الدولة فى حل مشكلات المجتمع، وترهل مؤسساتها، وعجزها عن تقديم الخدمات العامة للمواطنين، كما وكيفا. وفى كل موقف تظهر فيه الدولة المصرية قادرة يشعر المصريون بالسعادة، وفى بعض الأحيان بالكرامة. فقد أثار قرار حسم «مشروع الضبعة» انتشاء وفرحة لدى قطاع عريض من المصريين بعد أن شعروا أن التلكؤ فى الحسم أدى إلى تكالب المصالح الخاصة عليه.
المصريون يريدون «سحر الدولة»، ويبحثون عن مخرج لدوامة الأزمات التى يعيشون فيها. الضعف يولد ضعفا، والترهل يقود إلى مزيد من الترهل، وسوف يزداد المجتمع سوءا، وتكثر فيه الأمراض والتشوهات الاجتماعية، وتزداد حدة الاستقطاب الطبقى، وتستفحل التوترات الطائفية، ويتفشى الفساد أكثر مما نراه الآن، ما لم تعود الدولة «الفاعلة» إلى المجتمع، قادرة على مستوى الخدمات، ورعاية المواطنين، وليست متجبرة تقهرة، وتشل حركته باستبدادها.