لا تحدثنا عن النمو بل كلمنا عن التنمية البشرية
سامر سليمان
آخر تحديث:
الأحد 11 أكتوبر 2009 - 10:03 ص
بتوقيت القاهرة
كم مرة خرج علينا رئيس الوزراء الحالى والسابق والأسبق لكى يقسم أن معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى يزيد، وبالتالى الاقتصاد يتحسن. وكم مرة صرخ البعض مشككا فى أرقام الحكومة ومؤكدا أن الحالة الاقتصادية «زفت».
معظمنا يتشكك فى الكثير من الإحصاءات الرسمية. ونحن هنا معذورون فى شكنا، فكفاءة الأجهزة الإحصائية فى بلادنا محدودة، كما أن طبيعة نظمنا التسلطية ــ بما تتيحه من احتكار حكومى للمعلومات ــ تزيد من إمكانات تزوير المؤشرات. لكن هل المشكلة تنحصر فى خلاف حول نزاهة قياس الحكومة للمؤشرات أم فى قدرة المؤشرات ذاتها على ترجمة رفاهية الناس؟
ماذا لو تحلت الحكومة المصرية بالصدق؟ ماذا لو استطعنا الخلاص من التسلط السياسى وانتخبنا بإرادتنا الحرة حكومة ديمقراطية؟ هل يعفينا ذلك من مفارقة أن تؤكد الحكومة أن معدل النمو فى أحسن حال، بينما يقسم الناس أن الحالة الاقتصادية تسوء؟ الإجابة لا. لأن هذه المفارقة موجودة أيضا فى بلاد رأسمالية متقدمة. وهو الأمر الذى يثير جدلا اليوم حول جدوى مؤشرات النمو الاقتصادى فى فرنسا بل فى الولايات المتحدة ذاتها، الذى عبر باراك أوباما فى حملته الانتخابية عن ضعف كفاءتها.
فى هذا السياق تحرك الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى منذ أكثر من عام، وقام بتشكيل لجنة «قياس الأداء الاقتصادى والتقدم الاجتماعى»، ووضعها على عاتق نخبة من أبرز علماء الاقتصاد فى العالم الخارجين على التيار السائد. فاللجنة يترأسها الأمريكى جوزيف ستيجليتز الحاصل على جائزة نوبل فى الاقتصادى والمستشار الحالى للبيت الأبيض فى عهد باراك أوباما والناقد الشديد لليبرالية. كما تضم اللجنة عالما آخر لا يقل بروزا عن ستيجلتز، وهو الهندى أمارتيا سين الحاصل هو الآخر على جائزة نوبل والذائع صيته بفضل نظرياته فى التنمية البشرية، التى صاغها بالاشتراك مع الباكستانى محبوب الحق. كما تضم اللجنة عشرات من الأساتذة العاملين فى جامعات تعد الأفضل فى أوروبا وأمريكا مثل الفرنسى جان بول فيتوسى الأستاذ فى معهد العلوم السياسية فى باريس. المهمة التى كلفت بها اللجنة كانت العمل على بناء مؤشرات جديدة.
وقد كانت حصيلة هذه اللجنة تقريرا أوليا صدر منذ نحو سنة وتقريرا نهائيا قدمه جوزيف ستيجلتز إلى الرئيس الفرنسى يوم 14 سبتمبر الماضى، الذى يوافق الذكرى الأولى لانهيار بنك ليمان برازرز، الذى كان بمثابة بداية الأزمة الاقتصادية، التى وصفت بأنها الأعنف منذ الكساد الاقتصادى الكبير فى ثلاثينيات القرن الماضى. التقرير الأولى أفرج عنه، أما التقرير النهائى فلا يزال حبيس حقيبة الرئيس الفرنسى، الذى قال إنه سيذهب به إلى قمة الدول العشرين، ويعرض نتائجه على نظرائه. إلا أن البيان الختامى لرؤساء الدول المشاركين لم يحتو على أى إشارة بخصوص مؤشرات النمو الاقتصادى. وهو الأمر الذى يذكرنا بما تعلنه أوساط المعارضة اليسارية الفرنسية أن تحركات ساركوزى فيها الكثير من الدعاية وقليل من الجدية.
فما أهم نتائج التقرير الأولى؟ أكد التقرير أن مؤشر الناتج المحلى الإجمالى ــ وهو حصيلة جمع السلع والخدمات، التى ينتجها بلد ما خلال سنة ــ غير كافٍ لقياس رفاهية الاقتصاد.. فهو أولا مقياس للناتج وليس لرفاهية الناس. هل يختلف اثنان على أن حوادث الطرق تعد من المآسى، التى تصيب الناس يوميا؟ إذا زادت حوادث الطرق زاد على الفور معدل النمو فى الناتج المحلى الإجمالى. فهذه الحوادث تخلق وظائف إصلاح وصيانة السيارات وإنتاج قطع الغيار أو إنتاج سيارات بديلة، وعلاج المصابين ودفن الموتى. هذا مجرد مثل بسيط يوضح أن الكثير من الظواهر السلبية تنعكس على الناتج المحلى الإجمالى بالزيادة، وبالتالى تعطى انطباعا مزيفا بالرفاهية.
مثال آخر: الفورة العقارية التى حدثت فى الولايات المتحدة، والتى ساهمت فى وقوع الأزمة الاقتصادية العالمية فيما بعد كانت تنعكس بالزيادة على الناتج الإجمالى، وهو الأمر الذى أعطى أيضا انطباعا خاطئا بأن الاقتصاد فى تقدم، بينما هو يشارف على السقوط. وهو ثانيا مؤشر لا يأخذ فى اعتباره إهلاك الأصول والثروات الطبيعية وتدمير البيئة.
ففى مصر مثلا يزيد الناتج المحلى الإجمالى بمعدلات تفخر بها الحكومة. بينما فى الحقيقة جزء من تلك الزيادة مجرد ناتج عن استنزاف ثروات مصر من البترول والغاز الطبيعى اللذين أوشكا على النضوب. وهو ثالثا مؤشر يقيس المنتجات والخدمات المطروحة للبيع والشراء فى السوق، ويغفل تماما كل الأنشطة غير المدفوعة مثل تلك التى نقوم بها فى منازلنا من أول رعاية الأطفال إلى النظافة، إلى الطهى وخلافه. وهو كلها أنشطة حيوية لرفاهية المجتمع. افترض مثلا أنك قررت فى هذا العام طلاء منزلك بنفسك بخلاف العام الماضى، الذى استعنت فيه بعمال طلاء؟ فى هذه الحالة سينخفض الناتج المحلى الإجمالى مع أن العمل قد تم إنجازه.
افترض أيضا أنك قد قررت أن تستعين بمربية لأطفالك فى مقابل أجر بدلا من أن تقوم بذلك بنفسك. هنا أيضا الناتج سيزيد لأنك فى الماضى كنت تقوم بذلك دون أجر، وبالتالى لم تكن حسابات الناتج المحلى تدخل عملك هذا فى الحساب. مؤشر الناتج المحلى لا يدخل فى حساباته أيضا كل الأعمال التطوعية فى المجتمع المدنى غير المدفوعة، وهى التى تقدر فى فرنسا بما يساوى مليون وظيفة سنويا. وهو رابعا مؤشر لا يفصح عن توزيع عوائد الناتج الإجمالى. افترض أن معدل النمو فى مصر تخطى حاجز 10% سنويا. فهل هذا يعنى تحسن أحوال الناس؟ إطلاقا. لأنه من الممكن أن تتركز عوائد النمو تلك فى جيوب أقلية محدودة من المصريين، بينما ترزح الأغلبية تحت وطأة البؤس.
للقارئ الكريم الذى درس الاقتصاد أو الذى تعرف على الفكر الاقتصادى النقدى أو اليسارى أن يحتج قائلا إن هذه اللجنة لم تأت بجديد. فبعض ما قيل سلفا درسه كاتب هذه السطور فى سنواته الأولى بكلية الاقتصاد. وبعضه الآخر قام بتدريسه فى أول محاضرة له هذا العام فى مادة «مقدمة فى التنمية الاقتصادية». وقد لا يخلو امتحان المادة من السؤال الآتى: لماذا لا تعد الزيادة فى الناتج المحلى بالضرورة دليلا على التنمية الاقتصادية ولا على المواطنين؟ وبعض هذه الانتقادات وأشد منها موجود على مواقع نشطاء اليسار الفرنسى. بل إن هناك موقعا متخصصا فى هذه القضية اسمه «لا للناتج المحلى» (NoPIB).
ما أهمية التقرير إذن؟ هل اقترح مؤشرات بديلة لقياس الرفاهية؟ التقرير الأولى لم يقدم إلا اقتراحات بالعودة إلى مؤشرات معروفة لدارسى الاقتصاد مثل الناتج المحلى الصافى، الذى يأخذ فى اعتباره الأصول المهلكة.
كما اقترح أن يتم تضمين فى المؤشر تقييم الناس أنفسهم لأوضاعهم الاقتصادية، كما طالب بالتركيز على دخل الأسر عوضا عن الناتج. أما المؤتمر الصحفى الذى عقده ستيجليتز فى جامعة السوربون منذ حوالى ثلاثة أسابيع لعرض نتائج التقرير النهائى، فهو يكاد يقتصر على الخلاصة الآتية: مؤشر الناتج المحلى الإجمالى ضرورى، ولكنه ليس كافيا. حسنا. أو ليس هذا ما تعلمناه من أمارتيا سين زميل ستيجليتز فى اللجنة المذكورة، والذى يشجعنا أن نقول فى وجه أى سياسى يستعرض معدلات النمو السريعة: لا تحدثنا عن النمو، بل كلمنا عن التنمية البشرية.
الحقيقة أن أهمية التقرير لا تكمن فى نتائجه وإنما فى الجهة التى تقف وراءه، وهو الرئيس الفرنسى اليمينى. هذا التقرير يؤذن بنهاية حقبة من تاريخ العالم تسيد فيها اليمين الفكر الاقتصادى. والدليل على ذلك أن اليمين يلجأ إلى اقتصاديين من نقاد الليبرالية وأنه يستعير من اليسار بعض مفردات خطابه. يبدو أن المرحلة الراهنة ستعيد إلى الصدارة أفكارا ونظريات قيمة أهيل عليها التراب بسبب صعود اليمين المحافظ فى العالم. فليراجع كل منا كتبه «الصفراء».