تليفونى الأرضى.. اشتقت لك
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 11 أكتوبر 2016 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
فى بيتى تليفون أرضى يدق مرة كل ثلاثة أو أربعة أيام، وفى الغالب بالليل. أرفع السماعة مندهشا ليس فقط لأنه ما زال يعمل ولكن لأننى ما زلت أحبه. أقترب بالسماعة إلى أذنى ليأتينى من على الطرف الآخر صوت نسائى يختلف عن أى صوت نسائى ينقله الهاتف الذكى، أو هذا ما تصورت. هل هو الحنين إلى أصوات الماضى أم أن الهاتف الذكى يدخل بالفعل تغييرات على ما ينقله من أصوات نساء. سمعت صوتا محببا يطمئن أولا بلهجة مهذبة إلى أننى الشخص الذى تطلب صاحبته التحدث إليه وثانيا ليبلغنى رسالتها أننى لم أسدد فاتورة بمبلغ كذا وثالثا لينقل وعدها بعدم إزعاجى بتكرار الاتصال فى حال سددت الفاتورة. لم أرد بأن الفواتير مسددة بالكامل وحتى آخر فاتورة خشية أن أفقد نهائيا هذا الصوت الذى ينقله نقيا وممتعا تليفونى الأرضى.
***
تليفونى الأرضى ضحية انتقالنا مع غيرنا من القرن العشرين إلى القرن الحادى والعشرين. كان فى بيتنا كما فى بيوت الجيران ملء السمع والبصر، يرن عندنا فيسمعه سكان الطوابق الأربعة، والعكس صحيح ولا أحد يشكو. إذا توقف واحد منها عن العمل استعدت جميع تليفونات العمارة لتعويض غيابه. عاش معظم سنوات عمره ملكا متوجا على غيره من الأجهزة المنزلية وقطع الأثاث التى كانت تكتظ بها بيوتنا. ولد مرتبطا بالأرض بل مربوطا إليها، وبالتالى أضاف ثباتا واتزانا إلى الاستقرار المعهود فى حياتنا فى ذلك العصر.. ثبات واتزان واستقرار نفتقر إليه الآن، ونحن فى صحبة، والأدق ونحن فى عهدة، الهاتف الذكى.
***
الهاتف الذكى أساء إلى أشياء كثيرة كنا نعتز بها. كان الحب فى زمن التليفون الأرضى علاقة مسموعة. يعنى كلمة الحب، ومعها عشرات من الكلمات العذبة الأخرى، كانت من الكلمات التى يجب أن تنطق نطقا بألوان وأنغام مختلفة لتصل وتحقق هدفها. مرة تصدرها الشفتان خافتة أو هامسة ومرة زاعقة أو مدوية. أعتقد وبكل ما احتفظ من ثقة وبكل ما مر بى من تجارب أن التليفون الأرضى كان الجهاز الأمثل لتوصيل هذه الرسالة وتحقيق هدفها. وبكل الثقة أعتقد أن الهاتف الذكى الذى طغى، وتكبر هو الجهاز الذى أثبت فشلا مريعا فى أداء هذه الوظيفة تحديدا. أظن أنه خدعنا حين أغوانا فجعلنا نكتب ما كنا نود النطق به فيرسله لمن نحب. يصل باردا، كلمات متراصة بلا روح، تفصل بين الكلمات فواصل وتنتهى الجمل بعلامات استفهام أو تعجب. أين هذا من رسالة منطوقة؟ تفصل بين الكلمات آهات وتأوهات وزفرات حارة. أين الصوت الغاضب والصوت المتشوق والصوت العاتب والصوت المسامح. أعترف أننى لم اطلع على رسالة نصية واحدة استطاعت أن تترجم صوتا من هذه الأصوات فى حروف وفواصل وعلامات. كيف يمكن لرسالة مكتوبة أن تنقل بالكفاءة اللازمة «رنة ضحكة» صادرة من امرأة سعيدة ومغرمة. لا أظن أنه أمر ممكن، وبالتالى فالمؤكد من وجهة نظرى أن استمرار طغيان الهاتف الذكى سوف يؤدى إلى تفريغ الحب كما عرفناه من أقوى أرصدته، وأقصد التعبير والممارسة بالصوت. سمعت من تقول إنه لا يوجد جهاز يمكن أن يتفوق على الهاتف الذكى فى تشجيع الزوجين على الكذب، وسمعت أخرى تقول إنه لا يوجد جهاز يمكن أن يتفوق على الهاتف الذكى فى كشف الكذب وخراب البيوت.
***
لم نعد نعرف ماذا نقول بالكلمات المسموعة لنعزى من نعزى فى فقيده، أو لنهنئ من نربى على نجاح حققه، أو لنعتذر لزميل عن نسيان موعد أو أداء عمل. انغمس الشباب فى استخدامات الهاتف الذكى وتطبيقاته حتى إنهم فقدوا موهبة الغزل العفيف، أى الغزل المشروع منذ بدء الخليقة. حقيقة لا أستبعد أن يكون لتوسع ظاهرة التحرش فى السنوات الأخيرة علاقة بفقر لغة الغزل الراقى عند الشباب. شباب لم يتدرب على التعامل مع الجنس الآخر بلباقة واحترام ينتهى عاجزا عن التمييز بين الغزل والتحرش. ونسوة لم يختلطن فى صغرهن وشبابهن بالجنس الآخر فى علاقات سوية سوف يسرعن بتوجيه تهمة التحرش على أول، وأى بادرة، إعجاب أو تقدير، تصدر عن فرد من جنس آخر. أزعم أن الهاتف الذكى مسئول بدرجة أو أخرى عن فصل الجنسين وفرض نفسه حاجزا بينهما أو الناقل الوحيد للاتصالات بينهما فى سرية لم توجد فى عصر التليفون الأرضى، سرية غير صحية ولا صحيحة.
***
مستمرون فى تطوير الهواتف الذكية. وصلنا إلى أن عائلة مكونة من خمسة أفراد، ثلاثة فى سن المراهقة واثنان، أب وأم، يجلسون فى غرفة واحدة وفى يد كل واحد من الخمسة هاتف ذكى، والجميع يرسلون ويتلقون رسائل ولا شىء على الإطلاق يوحى بأن أحدا فى الغرفة يعرف حقيقية ما يدور فيها فى سرية كاملة وصمت مطبق. أين هذا الحال من حال الغرفة نفسها وقد جلس فيها خمسة أفراد، ثلاثة فى سن المراهقة واثنين أب وأم. يرن جرس التليفون فيرد واحد من الخمسة ليدير محادثة مفتوحة يسمعها الجميع، وقد يفتحون نقاشا عائليا حولها. هكذا كنا ونحن فى رفقة التليفون الأرضى، وهكذا أمسينا ونحن فى حوزة الهواتف الذكية.