محاكمة جنائية أم مساءلة سياسية
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الإثنين 11 نوفمبر 2013 - 7:15 ص
بتوقيت القاهرة
وكأننا لم نتعلم شيئا من الماضى القريب، ولم نستوعب بعد درس التعثر فى محاسبة حسنى مبارك بعد الثورة التى أطاحت بحكمه فى 11 فبراير 2011، فعلى نفس النحو أحيل محمد مرسى للمحاكمة الجنائية فى 4 نوفمبر فى نفس القاعة التى شهدت محاكمة سلفه، والتى قد يعود إليها كل منهما بعد أسابيع. وكما اقتصرت كل جرائم حسنى مبارك على الأمر بقتل المتظاهرين فى ثورة يناير والتربح من صفقة الغاز مع إسرائيل اقتصرت أخطاء مرسى فى حكم مصر على مقتل متظاهرين حول قصر الاتحادية فى 5 ديسمبر 2012. لم يجد القضاة الذين حاكموا مبارك دليلا على أنه أمر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وتفتقت قريحة المستشار أحمد رفعت عن اتهامه بالتقاعس عن الأمر بحماية المتظاهرين، وحكم عليه بالسجن المؤبد، وهو اجتهاد يحمد عليه، بينما وجدت محكمة النقض أخطاء فى التدليل دعتها إلى رفض هذا الحكم والأمر بإعادة المحاكمة وهو ما يواجهه مبارك الآن. لا يعرف أحد ماذا سيكون عليه حكم محكمة الجنايات بعد أن تنتهى إجراءات المحاكمة الثانية لمبارك. ولا يجب آن يندهش أحد إذا ما انتهت إلى الحكم عليه بالبراءة لعدم كفاية الأدلة، فالذين امتلكوا الأدلة هم العاملون بنفس الأجهزة الأمنية التى كانت دعامة حكمه من أمن الدولة والمخابرات العامة، وقد أقر ممثل الإدعاء فى محاكمة مبارك الأولى أنها لم تتعاون مع سلطات التحقيق. هل سيعنى حكم البراءة على مبارك أن ثورة يناير كانت مجرد اندفاع عاطفى على رئيس كان ضحية اتهامات ظالمة، وهل سيعطى ذلك مبررا لأنصار مبارك ليخرجوا فى مظاهرات عارمة صائحين «آسفين ياريس».
وإذا كان مبارك محظوظا لأن هذه الأجهزة التى استند حكمه عليها هى التى كان بوسعها أن تخرج بما لديها من أدلة تدينه ولم تفعل وفاء له وإنقاذا لقادتها الذين تورطوا معه فى نفس الجرائم، يبدو محمد مرسى أقل حظا فما يحتاجه القاضى من أدلة وبراهين على قيامه بالتحريض على قتل المتظاهرين سيخرج من أجهزة لم ينجح مرسى فى السيطرة عليها رغم ما يقال عن جهود بذلها أنصاره لتحقيق ذلك. ولن يكون من المستغرب أن تجتهد هذه الأجهزة فى تقديم أدلة الإتهام. ولكن ألا يقلل ذلك من مصداقية حكم الإدانة إذا صدر؟ وهل سيقبع الإخوان المسلمون مغتبطين بحكم البراءة لو انتهى إلى ذلك قضاة مرسى؟. فى حالة الإدانة سيصف البعض هذا الحكم بأنه تشوبه وصمة عدالة المنتصر التى هى أقرب للانتقام، وفى الحالة الثانية سيفتح حكم البراءة الباب واسعا أمام مرحلة جديدة من مظاهرات الإخوان المطالبة بعودة الرئيس «المظلوم» ومن عدم الاستقرار السياسيى فى مصر.
وهكذا فقد اختزلت المحاكمة الجنائية لمبارك أسباب ثورة يناير فى قتل المتظاهرين فى ميادين التحرير، وتختزل المحاكمة الجنائية لمحمد مرسى أسباب الموجة الثانية للثورة فى يونيو 2013 فى قتل المتظاهرين أمام قصر الاتحادية. ويكون الحكم بالبراءة لأى منهما فى نظر البعض إدانة للموجة الثورية التى أطاحت به، ويكون الحكم المخفف على أى منهما تقليلا من فداحة الأخطاء التى ارتكبها كل منهما فى حكم مصر.
ما كان أغنانا عن هذه الأسئلة المحيرة والمواقف العبثية التى تنتجها هذه المحاكمات الجنائية لو كان المسئولون عن إدارة شئون مصر بعد كل موجة ثورية قد اتخذوا القرار الصحيح بمحاسبة الرئيسين السابقين وأعوانهما أساسا عن الجرائم السياسية التى ارتكباها والتى قد لا تجد لها توصيفا صحيحا فى القوانين التى أصدرها أو أبقى عليها حكام مستبدون لم تبلغ بهم الغفلة حد صنع تشريعات يمكن أن تدينهم. وكانت المحاكمة السياسية لكل منهما هى الخطوة الأولى لبناء نظام جديد يفتتح عهده بالتطهر من مثالب النظام السابق.
الدعوة لمحاكمات سياسية، وربما لم يمض بعد وقتها تستند إلى أسباب وجيهة عديدة منها أولا أنها وحدها هى المحاكمات الصحيحة العادلة بعد أى ثورة. أخطاء كل من حسنى مبارك ومحمد مرسى ليست فى الأساس جرائم جنائية يعاقب عليها القانون، ولكنها جرائم سياسية فى حق وطن بحجم مصر جنى عليه كل منهما. جنى عليه مبارك بالتغاضى، إن لم يكن بالأمر، بانتخابات مزورة أثبتت تزويرها أحكام عديدة فى المحاكم خلال فترة توليه منصب الرئيس، وبتغذية مناخ سمح لأنصاره بتكوين ثروات طائلة شارك فيها أفراد عائلته بالإنخراط فى أنشطة طفيلية غير منتجة أو بالتكسب من مواقعهم فى أجهزة الدولة، وبالسماح بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان المدنية والسياسية، وبالانتقائية فى تخصيص الموارد العامة بحيث خدمت الأثرياء وحرمت المواطنين من إشباع حاجات أساسية للتعليم والصحة والسكن بل وماء الرى وماء الشرب، وبالتكاسل فى إدارة سياسة مصر الخارجية مما أدى إلى تهميش مكانتها على الصعيدين الإقليمى العربى والأفريقى والصعيد الدولي. وجنى عليها مرسى بتسليم الحكم الفعلى للبلاد لقيادة جماعة غير منتخبة بل لا يعترف بها القانون، وبالتخلى عن مسئوليته كحاكم لكل المصريين ليصبح واسطة تسلل هذه الجماعة للسيطرة على شئون الوطن، فضلا عن حنثه بقسمه على احترام الدستور والقانون فبدأ عهده بنقض حكم أعلى محكمة فى البلاد وواصل هذا المسعى بإعلان دستورى منح نفسه بمقتضاه سلطات ديكتاتور وأكمله بتعيين نائب عام على غير مقتضى القانون، وتشبث برفض السماع لأى مشورة تأتى من غير أعضاء التنظيم الذى ينتمى إليه متجاهلا المستشارين الذين عينهم بنفسه مما دعاهم للاستقالة واحدا بعد الآخر، ثم تلاعب بأمن الوطن بالسماح لجماعات مسلحة بالتوطن فى سيناء وتقييد حرية القوات المسلحة فى التعامل معهم مما حولهم إلى خطر داهم يدفع الوطن ومواطنوا سيناء ثمنا غاليا للتخلص منه.
هذه هى بعض الأسباب الحقيقية لسقوط حكم كل من مبارك ومرسي. وهى أسباب سياسية وليست جنائية، وهى الأسباب التى يجب أن يواجها بها، والدلائل عليها متوافرة، ولا يملك أى منهما إنكارها فهى واضحة للعيان، قد يحاول كل منهما إذا ما سئل عنها أن يجد مبررات لوقوعه فيها ولكنها لن تكون مبررات مقنعة. فالأضرار التى نجمت عنها هى نتيجة اختيارات قاما بها، وكان من الممكن لكل منهما أن تكون له اختيارات أخرى، وخصوصا أن كلا منهما قد بدأ حكمه وهو يتمتع بتأييد واسع بين المواطنين. ومن شأن المحاكمة السياسية أن توضح أبعاد هذه الانحرافات، وأن تكون فرصة لشحذ وعى المواطنين بأسباب الثورة، ومناسبة للبحث فى السبل التى تؤدى لتفادى الوقوع فى دركها مرة أخرى. كما أنه من شأنها ايضا أن تصبح فرصة للتدبر بين أنصار كل منهما من المخلصين لهذا الوطن، والذين توهموا أن سياسات الرئيس الذى أيدوه كانت تسير بالوطن على المسار الصحيح.
مثل هذه المحاكمات السياسية لو كانت قد تمت كان يجب أن تكون محاكمات علنية يتولاها قادة المجتمع المدنى المشهود لهم بالصدق والأمانة وعفة القول وطهارة اليد، وعقوبتها هى الحرمان من العمل السياسى فترة من الزمن، وهى لا تستبعد المحاكمة الجنائية لو قامت عليها أدلة جادة، وبدونها لا يتيسر للوطن أن يضع قدميه على الطريق الصحيح.