دبلوماسية على الهواء مباشرة

إيهاب وهبة
إيهاب وهبة

آخر تحديث: السبت 11 ديسمبر 2010 - 9:41 ص بتوقيت القاهرة

 استعرت التعبير الذى حمله هذا العنوان من العبارة التى يحلو للقنوات الفضائية ترديدها للتأكيد على أن المشهد الذى تبثه إنما ينتقل من موقع الحدث إلى المشاهد بشكل فورى وبلا فاصل زمنى بين الواقعتين. والواقع إننى لم أجد أفضل من هذا التعبير لوصف التسريبات التى بثها ويكيليكس منذ أيام لما يزيد على ربع مليون وثيقة، حوت نصوصا لمقابلات أجراها سفراء ودبلوماسيون وبرلمانيون أمريكيون مع قادة ومسئولين فى العديد من دول العالم، خلال السنوات الست الأخيرة. أما الفاصل الزمنى بين آخر هذه اللقاءات وتاريخ تسريبها فلم يتجاوز الثلاثين أسبوعا.

تضع معظم الدول حظرا على نشر الوثائق والمراسلات يمتد إلى ما بين 20 و30 عاما قبل أن يتاح للرأى العام والمؤرخين فرصة الاطلاع عليها. والهدف من ذلك ــ ونحن نتكلم هنا عن الشأن الخارجى ــ ليس تعمد إخفاء أمور بعينها عن الرأى العام، أو تضليله، إنما الحفاظ على سرية ما يجرى من أحاديث بين المسئول فى بلد معين وبين ممثل الدولة المعتمد لدى ذلك البلد، وبالتالى تشجيع الطرفين على تجاذب أطراف الحديث بينهما بصراحة، وبعيدا عن أعين وآذان أجهزة الإعلام، ولو إلى حين. قد يلجأ أى من الطرفين إلى تسريب مُتعَمّد لفحوى لقاء ما لتحقيق مأرب معين، غير أن ذلك لا ينطبق على حالتنا هذه، حيث أماطت ويكيليكس اللثام عن ذلك الكم الهائل من الوثائق التى تناولت العديد من الموضوعات الحساسة والتى لم يرغب أى من الطرفين فى الكشف عنها فى هذا التوقيت. ولعل النتيجة المباشرة لمثل هذه التسريبات، الخارجة عن سيطرة الجانبين، هى هدم الثقة بينهما وهى العامل الأساسى الذى يمكّن أى دبلوماسى من أداء عمله.

على الجانب المقابل ألا يحق للرأى العام أن يكون على اطلاع كامل بما يجرى باسمه ولمصلحته؟ أليس الرأى العام هو المنتفع أو المتضرر فى نهاية الأمر مما قد يحاك داخل تلك الغرف المغلقة؟ أولسنا فى زمان «الشفافية» التى أضحت مطلبا عالميا بل يعاقب من يتهاون فى الالتزام بها؟ وأكثر من هذا ألا يتمثل مجرد احتمال نشر هذه الأحاديث رادعا قويا، للمسئولين والمبعوثين على السواء، ضد أى محاولة لتضليل الطرف الآخر أو الرأى العام فى حالة نشرها وإذاعتها..؟ ألا يجب عليهم، بعدما حدث ما حدث، أن يتوخوا الحذر ويزنوا كلامهم بميزان الذهب؟ من أجمل ما قرأت حول تسريبات ويكيليكس هذه ما قاله أحد المعلقين من أنه لو كان قد تم تسريب حقائق الحرب الفيتنامية ومآسيها فى الوقت المناسب، لكان فى الإمكان وضع حد لهذه المجازر وذلك الخراب قبل أن تسكت المدافع بسنوات. وأعتقد أن هذا ينطبق أيضا على حرب العراق، وحرب أفغانستان، حيث إن كشف الحقائق هو الرادع الأكبر لمنع ارتكاب الجرائم والانتهاكات.

والواقع أن الولايات المتحدة قد قطعت شوطا كبيرا فى سبيل تمكين الرأى العام من الاطلاع على الحقائق بالسرعة الواجبة وعدم الانتظار لعشرات السنوات قبل أن يتم الإفصاح عنها والإفراج عن الوثائق والمستندات. تمثل هذا فى إصدار قانون حرية المعلومات Freedom of Information Act الذى صدر عام 1966 وتم إدخال تعديلات عليه عدة مرات منذ ذلك التاريخ. يعطى هذا القانون الحق للهيئات والأفراد لطلب أى معلومات من الأجهزة الحكومية على أساس أن للشعب حقا أصيلا فى المعرفة. هناك استثناءات بالطبع تتمثل فى حماية الأمن القومى أو المصالح الخارجية للدولة، غير أن أوباما، وفاء لوعود قطعها على نفسه فى حملته الانتخابية، أصدر توجيهين على جانب كبير من الأهمية فى أول يوم لتوليه السلطة أى فى 21 يناير 2009، من أجل ضرورة احترام قانون حرية المعلومات والتزام جميع الأجهزة الحكومية بالشفافية الضرورية ويطلب منها عدم حجب أى معلومات يطلبها الجمهور تحت ذريعة أن الكشف عما جاء بالوثائق قد يسبب حرجا للموظفين العامين!

أرجو ألا يُفهم مما ذكرته أننى أقر ويكيليكس على فعلتها، أو أننى من دعاة تسريب المعلومات بلا ضابط ولا رابط. ليس هذا ما قصدته بالطبع لأننى أعلم يقينا كما يعلم زملائى بوزارة الخارجية أن الدبلوماسية لا تقوم لها قائمة فى ظل انهيار الثقة المتبادلة. ثقة فى أن ما يجرى من حديث بين المسئول والمبعوث لن يجد طريقه فى اليوم التالى إلى الصحافة أو أجهزة الإعلام فيتحول الأمر إلى سجال على الهواء تختلط فيه الأوراق وربما تضيع أو تهدد المصالح. ولا يغيب عن الذهن أن الإفصاح عن أمر من الأمور قبل الأوان قد يفيد الخصوم ومن يضمرون الشر لهذا الطرف أو ذاك، فضلا عن إمكانية حدوث أزمات دبلوماسية مع طرف ثالث جاءت على ذكره هذه التسريبات.

أخيرا، الطريف فى الأمر كله ــ إذا كان فى الموضوع أى طرافة بالفعل ــ أننا شبعنا تبشيرا بأهمية ثورة المعلومات وبمزايا العولمة وخيرها الوفير الذى سيعم على البشرية. إنما يبدو الآن أن السحر انقلب على الساحر، وإذ بالولايات المتحدة بكل ما تملكه من تقدم علمى تفشل فى توفير الأمان لوسيلة أساسية فى إدارتها للشئون الخارجية. من يصدق أن الولايات المتحدة وضعت كل هذه المعلومات والأسرار تحت رحمة ما يقرب من ثلاثة ملايين موظف فى مختلف الدوائر الدبلوماسية والحكومية والعسكرية ممن يحق لهم الدخول على نظام الاتصال الذى يربط بين وزارة الخارجية وعدد من الوزارات والوكالات، وبالتالى تمكنهم من سبر أغوار الأسرار والوصول بكل سهولة ويسر إلى ذلك الكنز الهائل من المعلومات الحساسة والتقديرات التى كان يفترض أن تظل فى طى الكتمان حينا من الدهر.

يبقى التساؤل عن ذلك الخط الرفيع الفاصل بين ما ينبغى أن نبقيه سرا وبين ما يمكنّا الإفصاح عنه، ولمن، ومتى؟ أعتقد أن الإجابة تكمن فى ذلك القول المأثور «ليس كل ما يعرف يقال، ولا كل ما يقال صادف أهله، ولا كل من صادف أهله حان وقته».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved