بأى حال عدت يا صندوق الانتخابات؟

سامر سليمان
سامر سليمان

آخر تحديث: الأحد 11 ديسمبر 2011 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

من حقنا، بل من واجبنا، أن نهنئ أنفسنا بعودة صندوق الانتخابات إلى المجال السياسى بعد طول غياب. ستون سنة مرت منذ آخر انتخابات حقيقية فى عام 1951. مشكلة انتخابات نظام يوليو لم تكن فقط فى تزويرها لصالح أتباع السلطة. المشكلة الكبرى كانت غياب أى منافسة حقيقية على الصندوق بسبب حرمان القوى السياسية من الحق فى تشكيل أحزابها. كل الأحزاب التى تأسست فى عهد نظام يوليو من أول هيئة التحرير ومرورا بالاتحاد القومى والاتحاد الاشتراكى وحزب مصر وصولا إلى الحزب الوطنى الديمقراطى لم تكن أحزابا حقيقية وإنما واجهة مدنية يحكم من خلالها نظام عسكرى كما كان الحال فى الخمسينيات والستينيات أو نظام بوليسى/عسكرى كما كان الحال منذ التسعينيات.

 

أما أحزاب المعارضة المسكينة التى ظهرت على هامش المشهد منذ السبعينيات فقد كان مطلوبا منها ألا تفكر أبدا فى الوصول إلى السلطة وأن تظل فى المعارضة إلى الأبد، وهو ما جعل منها أشباه أحزاب أو لا أحزاب، لأن الحزب بالتعريف هو جماعة منظمة تسعى للوصول إلى السلطة. لم يكن الشعب يحتاج لعلماء السياسة لكى يكشفوا له عن صغر قيمة العملية الانتخابية. وهكذا كانت هناك علاقة عكسية بين الدخل والميل إلى التصويت فى الانتخابات. فالناس الأعلى دخلا مالوا للامتناع عن التصويت، أما الناس الأقل حظا فى الثروة فبعضهم كان يشارك سعيا وراء «الرزق الانتخابى». بالطبع هناك استثناءات تتمثل فى مجموعات أو أفراد من عتاة المناضلين والمجاهدين السابحين عكس التيار الذين أصروا على المشاركة فى الانتخابات الهزلية سعيا لتقليل نسبة التزوير أو لإيصال بعض الأصوات الشريفة إلى البرلمان أو للاحتكاك بالجماهير من خلال الحملات الانتخابية.

 

الانتخابات فى العصر الملكى كانت أحيانا آلية حقيقية للصراع السياسى. فالانتخابات فى حالة امتناع العرش عن تزويرها، كانت تعطى الحزب الفائز فيها (الوفد) الحق فى تشكيل الحكومة. على العكس من ذلك، لم تكن انتخابات نظام يوليو تفضى إلى أى تغيير فى الحكومات أو فى السلطة، وإنما كانت وسيلة لتجديد دماء الواجهة المدنية التى تحكم من خلالها المؤسسات العسكرية والشرطية والمخابراتية، كما كانت أداة لاحتواء المعارضة للنظام من خلال منحها بعض المنصات التى تستطيع من خلالها التنفيس عن إحباط وغضب معظم جموع الشعب.

 

بدماء الشهداء وتضحيات المصابين وعرق المناضلين منذ الخمسينيات وحتى الآن ومشاركة الملايين من أبناء وبنات الشعب عادت الانتخابات البرلمانية إلى مصر. فهنيئا لنا. السؤال الآن كيف نحافظ على هذا الانجاز ونبنى عليه؟ أظن أن الطريق إلى ذلك يمر أساسا عبر زيادة قدرة البرلمان على تمثيل فئات الشعب المختلفة. فلكى يكون لدينا برلمان قوى، ولكى يحافظ ذلك البرلمان على وضعه كمركز أساسى فى العملية السياسية يجب أن يصبح ساحة حقيقية لتمثيل القوى الاجتماعية والجماعات السياسية. البرلمان الذى لا يحتوى هذه القوى وتلك الجماعات هو برلمان هش قابل للانكسار والزوال، لأن القوى الحقيقية فى المجتمع لو لم تجد مكانا لها فى البرلمان ستسعى لكى تجد لها مكانا فى أماكن أخرى، الأمر الذى سيؤدى فى النهاية إلى بزوغ مراكز أخرى للقوة السياسية وسقوط البرلمان. هذا ما حدث فى يوليو 1952. لا يمكن فهم السقوط السهل للبرلمان فى 23 يوليو إلا بحقيقة أن قوى رئيسية لم تكن تجد لها أى تمثل فى البرلمان ومن ثم ساندت انقلاب الضباط الأحرار. فبرلمان الباشوات لم يكن يحتوى على ممثلين عن الحركة العمالية الصاعدة ولا عن الفلاحين الصغار ولا على ممثلين للقوى السياسية البازغة وهم الإسلاميون واليساريون ومصر الفتاة.

 

●●●

 

برلمان 2011 سيكون أكثر تمثيلا من ذلك الذى سقط فى 1952 لأنه يحتوى على أكبر قوة سياسية فى البلاد وهى التيار الإسلامى. لكن المشكلة أن هناك جماعات اجتماعية وسياسية كثيرة لن تجد لها مكانا فى البرلمان أو لن تجد إلا مكانا على الهامش. فالطبقات الشعبية وعلى رأسها العمال والفلاحون الصغار لن يكون لها تمثيلا حقيقيا على الرغم من قاعدة الخمسين بالمائة عمالا وفلاحين، سواء لأن القانون يسمح بترشح غير العامل وغير الفلاح على مقاعد العمال والفلاحين أو لأن الوضع التنظيمى فى النقابات العمالية والفلاحية كسيح لدرجة الحيلولة دون تبلور عدد مهم من القيادات العمالية والفلاحية القادرة على المنافسة فى الانتخابات، أو لأن دخان المعارك الطائفية غطى على الصراع السياسى المبنى على المصالح المادية. والتيارات الاشتراكية والديمقراطية الاجتماعية أيضا ستكون مهمشة فى برلمان 2011. صحيح أن هذه التيارات تتحمل نصيبا وافرا من المسئولية عن تهميشها بسبب قصورها الفكرى والتنظيمى وأن النقابات هشة بما لا يساعد تلك التيارات التى تقوم أساسا على التعبير عن مصالح متبلورة فى النقابات. إلا أن الواقع يقتضى الاعتراف بأن تراخى اللجنة العليا للانتخابات وسلطات الدولة فى تطبيق القانون فيما يخص الحد الأقصى للإنفاق على الدعاية قد جاء على حساب كل الجماعات غير المحظوظة ماديا ومنها اليسار.

 

أما المرأة فهى غالبا الخاسر الأكبر فى الانتخابات. فبعد سنوات من الإقصاء والتهميش من المجال العام بواسطة وسائل ناعمة أحيانا ووسائل منحطة وفجة فى أحيان أخرى (مثل التحرش الجنسى) لم يسع قانون الانتخابات بشكل جدى إلى إعطاء المرأة فرصتها. فقد فرض على القوائم الحزبية أن تحتوى على امرأة واحدة فقط بدون اشتراط أن تكون فى مرتبة متقدمة. وهو الأمر الذى أدى إلى تذيل المرأة الأغلبية الساحقة للقوائم الحزبية وأدى فى النهاية إلى عدم حصول النساء على أى مقعد حتى الآن باستثناء واحدة فقط هى الأستاذة سناء السعيد التى فازت على قائمة الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى فى أسيوط.

 

أما الشباب فحدث ولا حرج. فلن يجد آلاف السياسيين الشباب الذين دخلوا حديثا إلى المجال السياسى عقب ثورة يناير المجيدة إلا مكانا هامشيا فى برلمان 2011. بالطبع الأمر يتطلب بعض الوقت لكى يهضم المجال السياسى الرسمى والحزبى هذه الأعداد الضخمة من السياسيين الشباب. لكن بالتأكيد النظام الانتخابى بتراخيه عن تطبيق القانون فى مجال الحد الأقصى للإنفاق المالى وقانون الأحزاب باشتراطه خمسة آلاف توكيل وإعلانات فى الصحف جاء على حساب الكثير من الشباب الذى لم يتملك الموارد المادية الكافية لبناء أحزاب جديدة أو للإنفاق على حملات انتخابية ضخمة.

 

قصور البرلمان الجديد عن تمثيل الكثير من فئات الشعب يضع مسئولية كبيرة على القوى القائمة على صياغة النظام السياسى الجديد لكى تصحح العيوب ولكى تصوغ قواعد اللعبة المنافسة السياسية بما يخلق بالفعل تكافؤا للفرص وبما يفتح الباب أمام تمثيل أكثر فى المستقبل لكل الفئات المهمشة فى برلمان 2011. هذا القصور يفرض أيضا على القوة السياسية السائدة فى البرلمان أن تتواضع وأن تدرك أن فوزها الساحق فى الانتخابات لا يعود فقط إلى قاعدتها الشعبية الكبيرة وإلى عملها الجاد طوال السنوات الماضية، وإنما يرجع أيضا إلى قواعد للعبة عملت لصالحها وإلى مناخ سياسى طائفى ذميم من مخلفات نظام مبارك وإلى تراخى السلطات فى تطبيق القانون ضد من يستخدم الدعاية الدينية ومن يشوه خصومه باستخدام الورقة الطائفية.

 

●●●

 

ليس هناك عاقل يمكن أن ينكر أن التيار الإسلامى هو أقوى فصيل سياسى فى مصر وأن أغلبية الشعب تريد أن تجربه فى الحكم، وأن تسلمه المسئولية يفتح الطريق أمام تطور سياسى قد طال كبته وقمعه وحان وقت إطلاق سراحه، لكن ديمقراطية مصر الوليدة لا يمكن أن تستقر بدون وجود معارضة قوية تحول دون نمو نظام استبدادى جديد، وبدون تطبيق قواعد لعبة عادلة تؤدى إلى رضاء القوى السياسية عن نتيجة الانتخابات، وهو الأمر الذى لم يتحقق للأسف فى هذه الانتخابات وهو الخطر الذى يجب مواجهته فى الحاضر والعمل على تلافيه فى المستقبل. ولهذا الحديث بقية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved