مساء الإثنين الماضى تلقيت نبأ وفاة عبدالمحسن قطان، رجل الأعمال الفلسطينى الكويتى العربى، والمفكر القومى المستنير، ورائد العمل التنموى والثقافى فى فلسطين والوطن العربى. وقد حزنت حزنا بالغا لسماع هذا الخبر ليس فقط لأنه كان صديقا حميما لوالدى فى حياته ومخلصا لذكراه بعد وفاته، وإنما لأننى، برغم انتمائى لجيل مختلف، أتيحت لى فرصة معرفته عن قرب والتعامل معه سنوات طويلة ومتابعة ما قدمه لوطنه وللمجتمع العربى.
ولم يمض يومان على وفاة عبدالمحسن قطان إلا وكان الرئيس الأمريكى «ترامب» يعلن بكل صلف واستهتار قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبدء إجراءات نقل السفارة الأمريكية اليها، مبررا ذلك بأنه يساهم فى تحقيق السلام فى الشرق الأوسط.
وبينما كنت جالسا السبت الماضى فى مدينة «عمان» فى عزاء «محسن» كما كان أصدقاؤه المقربون يسمونه، تحدث الحضور عن الرحمة الإلهية التى جعلته يفارق عالمنا قبل أن يشهد هذه اللحظة المؤسفة والمعبرة عما آل إليه الوطن العربى من تفرق وانقسام وضعف، مكنوا الرئيس الأمريكى من اتخاذ قراره بمثل هذه السهولة والاستخفاف، ضاربا عرض الحائط بنداءات الحكام العرب ورؤساء الحكومات من أنحاء العالم وبالقرارات الدولية وحتى بنصائح حلفائه. ولكنه مضى مع ذلك فى طريقه، مدفوعا ربما بالتهور والتطرف اللذين تميزت بهما قراراته بشكل عام، أو باحثا عن مكسب سريع يدعم به رئاسته المهتزة، ولكن الأكيد مدركا ضعف المقاومة العربية، ليس لقلة السلاح والعتاد ولا المال، بل بسبب حروب أهلية وصراعات طائفية استنزفت شبابنا ومواردنا، وتفكك عربى، وانقسام فلسطينى لم يكد يخطو خطوتين فى طريق المصالحة، وتحول جامعة الدول العربية إلى ساحة للكلام، ومجلس التعاون الخليجى العاجز عن جمع قياداته. والأهم من ذلك ضعف الأمة العربية فيما أهدرته من فرص وموارد جرى استثمارها فى اقتناء السلاح والعتاد وبناء ناطحات السحاب وشراء المنصات الإعلامية بدلا من انفاقها فى توفير التعليم والصحة والكرامة والحرية للمواطنين.
هذا الاعتبار الأخير، أهمية التنمية البشرية والعنصر الإنسانى فى بناء المجتمع ومواجهة تحديات العصر، كان أهم ما أدركه عبدالمحسن قطان مبكرا وساهم فيه بشكل فعال. لهذا، وبعد نجاح باهر فى عالم الأعمال ونشاط سياسى فى بناء المؤسسات الفلسطينية، اختار أن يضع جل وقته وجهده فى رفع شأن التعليم والثقافة والبحث العلمى فى الوطن العربى. وهكذا قام مع أسرته بإنشاء مؤسسة القطان التى بدأت نواتها فى العاصمة البريطانية فى مطلع تسعينيات القرن الماضى ثم كبرت وناضلت كى تنمو وتكتسب وجودا قانونيا وتمارس نشاطها تحت الاحتلال الإسرائيلى منذ عشرين عاما، ثم انطلقت فى تقديم المنح الدراسية، ومساندة شباب الباحثين، وإقامة المعارض والمنتديات، ودعم البحث العلمى، فى الضفة الغربية وفى غزة، وصارت مؤسسة عربية رائدة تؤثر فى حياة عشرات الآلاف من أبناء وبنات الشعب الفلسطينى، وتؤكد أن المقاومة تكون بتنمية الشباب أولا وتمكينهم من استرداد ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على التغيير.
ولم تتوقف جهود عبدالمحسن قطان عند دعم ومساندة الشعب الفلسطينى بل كان مؤمنا بالتنمية البشرية للمجتمعات العربية بوجه عام وبأن رفع شأن وامكانات المواطن العربى هو الطريق للاستقلال والحرية والاستقرار، فكانت له مساهمات مماثلة فى دعم الثقافة والتعليم فى كل أنحاء الوطن العربى. أما مصر فكان يعتبرها مفتاح النهضة العربية وحجر الزاوية فى استعادة العرب لتوازنهم واستقرارهم. وكان فى كل مرة ألتقيه يبادرنى بالاطمئنان على أحوال الأسرة أولا، ثم ينطلق فى السؤال عن احوال مصر، متفائلا بشعبها وإمكاناته، قلقا مما تتعرض له من أزمات ومصاعب، ومستعدا دائما للمساهمة فى كل ما يقدر عليه. ولا أنسى أنه فى احد أيام ديسمبر الباردة عام ٢٠١٠ كان حاضرا مع المرحومة زوجته «ليلى» حفل افتتاح مركز أحمد بهاء الدين الثقافى فى قرية الدوير بمحافظة أسيوط، وقد حضرا خصيصا للمناسبة وقطعا الطريق بسيارة فى رحلة ذهاب وإياب فى نفس اليوم على الطريق الغربى، وصفها فيما بعد بأنها كانت «مخيفة». وكانت سعادته بالغة للمشاركة مع أصدقائه المصريين والعرب فى افتتاح مشروع ثقافى تعليمى فى صعيد مصر. كما لا أنسى وقوفه لتلقى العزاء فى وفاة والدى عام ١٩٩٦ بجانب المرحوم الدكتور كمال الشاعر من الاْردن والسيد الأخضر إبراهيمى من الجزائر تعبيرا عن التقدير لصداقة وزمالة امتدت عشرات السنين وأيضا عن التزام تجاه مصر وشعبها.
***
رحم الله عبدالمحسن قطان الذى سيفتقده زملاؤه وتلاميذه فى مصر وكل الوطن العربى، أما القدس فلها حديث آخر.