«الصهيونية المسيحية» هى المدخل الوحيد الذى يقدم لنا فهما معقولا ومنطقيا لقرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، وهو القرار الذى ألحق خسائر سياسية فادحة بالولايات المتحدة، وأساء كثيرا ليس فقط لمصداقية واشنطن كوسيط فى عملية السلام بالشرق الوسط، ولكن لكل حلفائها العرب فى المنطقة، كما أثار عاصفة انتقادات دولية شملت غالبية دول الاتحاد الأوروبى الحلفاء التقليديين لأمريكا، فى نفس الوقت الذى أعطى قبلة الحياة لداعش وأخواتها من التنظيمات الإرهابية والتى كادت تلفظ أنفاسها الأخيرة فى المناطق التى شهدت نشأتها فى سوريا والعراق.
اليهود يلعبون دورا مهما فى تشكيل مفاهيم الصهيونية المسيحية التى يؤمن بها ترامب إيمانا راسخا، فطبقا لهذه المفاهيم التى تتبناها على نطاق واسع كنائس بروتستانتية فى أمريكا، فإن عودة اليهود إلى فلسطين باعتبارها «أرض الميعاد» تتفق مع نبوءات الكتاب المقدس، والتى تمهد للنزول الثانى للمسيح للأرض لإقامة ملكه عليها لمدة ألف عام سعيدة تعقب حروبا عالمية تنطلق من الشرق الأوسط، وأن من واجب أتباع هذه الكنائس مساعدة اليهود بكل السبل والوسائل، لمساعدة الله على تحقيق مشيئته!
مثل هذه الأفكار التى تعارضها كل الكنائس الأخرى، والتى تخلط ما بين النبوءات الدينية والخرافات وأساطير العصور الوسطى، يتبناها عن اقتناع تام الرئيس ترامب، لتشكل مرجعيته وأفكاره وأدواته لحل أزمات منطقتنا المنكوبة فيما يسمى بـ«صفقة القرن» التى زادت سمعتها سوءا بين الشعوب العربية بقرار ترامب الكارثى حول القدس!
العلاقات المشبوهة بين هذه الصفقة الغامضة واعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، تؤكد أن هناك ضغوطا شديدة سوف تمارسها أمريكا على الحكومات العربية، من أجل تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وقبولها بخطط تبادل الأراضى لإقامة دولة يهودية صافية العرق فى أرض فلسطين «أرض الميعاد» وطرد كل الفلسطينيين منها، وإقامة دويلة فلسطينية على أراضى غزة والضفة الغربية ومحاولة ضم جزء من شمال سيناء إليها وإعطاء مصر جزءا من صحراء النقب عوضا عنها مع وعود بمنحها مساعدات مالية ضخمة، وتأجير الجولان لإسرائيل وتعويض سوريا بقطعة أرض أخرى، وربط هذه الدولة الفلسطينية باتحاد كونفدرالى مع الأردن، وهى خطوات تستهدف رسم خريطة جديدة للمنطقة وتقسيم عدة دول عربية على رأسها العراق وسوريا والسعودية لعدة دويلات طبقا لمكوناتها العرقية والمذهبية.
ربما يكون غياب الديمقراطية عن المجتمعات العربية، والتسلط وانتهاكات حقوق الإنسان وحرياته التى تمارسها أنظمة الحكم العربية على شعوبها هى البوابة الملكية التى يتدخل من خلالها ترامب، ومن قبله ريجان وبوش الأب والابن، لإدارة شئون المنطقة، وإعادة فكها وتركيبها طبقا لرؤاهم المستمدة من مفاهيم الصهيونية المسيحية، فالشعوب العربية ليس لها وزن أو قيمة فى حسابات ترامب مادامت مقيدة الحركة بسلاسل حكامها، والذين هم بدورهم يصبحون غير قادرين على مواجهة الضغوط الأمريكية بدون ظهير شعبى يقف خلفهم.
ومع ذلك، فإن طريق ترامب ليس مفروشا بالورود، هناك آفاق واسعة أمام الشعوب لتحقيق مكاسب ديمقراطية فى المستقبل القريب، هناك فرص متاحة لإقامة تحالفات جديدة مع روسيا والصين وايران وتركيا، هناك قوى مقاومة ضد المخططات الصهيونية كحزب الله وحماس وغيرهما، وهناك أجيال جديدة تسعى لحياة حرة وكريمة، وهناك ثروات ضخمة لو أحسنا استغلالها سيكون لنا شأن آخر.
مواجهة تهويد القدس ومخططات الصهيونية المسيحية ليست معركة سهلة، هى فى الأساس معركة تحرير الشعوب العربية من الاستغلال ومن القيود غير الديمقراطية على حركتها.. لا أكثر ولا أقل!