الإيديولوجيا الغائبة عن السترات الصفراء
محمد عصمت
آخر تحديث:
الثلاثاء 11 ديسمبر 2018 - 12:05 ص
بتوقيت القاهرة
أهم هدف حققته انتفاضة السترات الصفراء فى فرنسا، والتى تنتقل عدواها لعدة دول أوروبية، هو أنها كشفت عن الجانب الوحشى فى النظام الرأسمالى الذى يهيمن على عالمنا اليوم، والذى لا ينظر إلى الفقراء ومحدودى الدخل فى كل بقاع الدنيا إلا كونهم مجرد أرقام فى دفاتر من يهيمنون على هذا النظام، لا معنى لحياتهم ولا قيمة لإنسانيتهم إلا فى حالتين: عندما يبيعون قوة عملهم مقابل أجور تضمن لهم حياة بجودة أقل، وعندما يستهلكون فيراكمون أرباح المؤسسات المالية الكبرى والشركات عابرة القارات.
فى ظل هذا النظام يمتلك 1% من البشر أكثر من 50 % من ثروات العالم، ستصبح 66% مع حلول عام 2030، بينما يمتلك 70% من سكان العالم 3% فقط من الثروة، وهو ما يمثل خللا رهيبا أشارت إليه دراسة أعدتها العام الماضى مكتبة مجلس العموم البريطانى، والتى أكدت أيضا أن زيادة ثروات الأغنياء تتضاعف مرتين مقارنة بثروات 99% من سكان الأرض، فى حين أشارت دراسات أخرى اجرتها الأمم المتحدة منذ عدة سنوات إلى أن الدول الغنية تقدم للدول الفقيرة مساعدات وقروض تقدر بـ 130 مليار دولار سنويا، لكنها فى المقابل تحصل على 2 تريليون دولار كل سنة من هذه الدول الفقيرة عن طريق عائدات الشركات العابرة للقارات وفوائد الديون والتبادل التجارى غير المتكافئ!!
تصاعد غضب حركة السترات الصفراء لا يعنى أن النظام الرأسمالى أصبح فى خطر داهم يهدد بقاءه، فمن يؤيد هذه الحركة فى فرنسا قوى متناقضة ينتمى بعضها إلى أقصى اليمين الرأسمالى، وقوى أخرى تنتمى إلى الأحزاب اليسارية، فى نفس الوقت الذى تتفاوت فيه مطالب قيادات الحركة بداية من زيادة الحد الأدنى للأجور والمعاشات وفرض ضرائب على الاغنياء لا الفقراء، وتمثيل أكبر لمحدودى الدخل والمهمشين فى البرلمان، إلى من يطالب بتوزيع أكثر عدالة للثروة القومية لأنهم لا يريدون التفاوض مع الحكومة على الفتات، وهى تناقضات لا تسمح بإسقاط نظام رأسمالى عريق فى بلد كفرنسا، كما انها لا ترفع مطالب واضحة بضرورة تغيير فلسفة السوق مثلا.
مارى لوبان الزعيمة اليمينية تؤكد أن العيب ليس فى النظام ولكن فى الرئيس الذى لا يصلح لمنصبه والذى يتصرف كرجل بنوك وليس كرجل دولة، وانه لا يستمع لشكاوى شعبه لأنه ينتمى إلى عالم مخملى لا يهتم إلا بمصالح الأغنياء، أما الأحزاب الاشتراكية والشيوعية فقد طالبت بإسقاط ماكرون وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة وحجب الثقة عن حكومته فى البرلمان، دون أن يصدر منها ما يشير إلى المطالبة بإقامة نظام شيوعى تحكمه البروليتاريا كما تقول الأدبيات الماركسية، وهو على كل حال مطلب لم يعد له أى أولوية عند هذه الأحزاب، بل إنها تخلت عنه أساسا فى برامجها منذ سنوات طويلة.
السترات الصفراء حركة غضب اجتماعى ليس له ايديولوجيا محددة، وفى الأغلب لن يغير كثيرا من قواعد اللعبة فى أوروبا بشكل جذرى، فماكرون نفسه تراجع خطوة للخلف واعتذر للشعب الفرنسى عن قراراته برفع أسعار الوقود، ومع ذلك فهو حراك يمكن أن يمثل وقودا للقوى التى تعبر بصدق عن الفقراء والمهمشين فى العالم لكى تنتصر فى جولة مهمة ــ بكل العنف الذى صاحبها ــ فى معركتها المستمرة ضد نظام اقتصادى عالمى يزيد الفقراء فقرا والأغنياء غنى.
صحيح أن غالبية المشاركين فى احتجاجات فرنسا يواجهون السلطة بدون أى أفق اشتراكى، وقد لا تصب هذه الاحتجاجات بالضرورة فى مصلحة الاشتراكيين على المدى القصير على الأقل، لكنها ستقدم على الأقل نموذجا يمكن أن يتكرر فى العديد من دول العالم سواء كان فقراؤها يرتدون سترات صفراء أو حمراء، أو لا يستطيعون شراء أى سترات على الاطلاق، لكى يطالبوا بتحسين ظروف حياتهم المعيشية المتدهورة، وبحسب تحالفهم معا قد يستطيعون إقامة عالم أكثر عدالة.