عملاق وسيدة وكرتان
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 11 ديسمبر 2019 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
ماذا لو كان العالم كرة زجاجية كتلك «الثقالة» التى نضعها على الأوراق لمنعها من أن تتطاير؟ كرة زجاجية كتلك التى عادة ما يعيش داخلها عالم شتوى، بيت صغير فى الغابة وثلج وطفلة وكلبها الودود. حين نحرك الكرة يتساقط الثلج داخل الجدران الزجاجية ويقفز الكلب ليأكل شيئا من يد الفتاة. يطغى عليهم بعض الفوضى قبل أن تعود الأشياء إلى مكانها داخل الكرة الزجاجية.
***
ماذا لو أمسك أحدهم بعالمى الكبير وحركه؟ لنتخيل التالى: يحمل أحدهم كرة زجاجية فيها عالمى ويهزها قبل أن يضعها على الطاولة. أقع على الأرض، هل كان ذلك زلزالا؟ ماذا حدث؟ لماذا تحرك كل شىء من حولى؟ ها هى الأمور تهدأ قليلا. لقد تساقطت كل الكتب من على المكتبة، هى على الأرض الآن. أنا نفسى سقطت بجانبها وحميت رأسى من الأرفف الخشبية التى قد تقع من أثر الزلزال.
***
ثم يأتى السكون. لم يعد شىء يتحرك. نعم لقد ترك العملاق كرته الزجاجية على الطاولة. أنظر حولى أريد أن أفهم ما حل بى، ما حل بعالمى بعد أن يقلبه العملاق رأسا على عقب. أين بيتى؟ أين أهلى؟ أين أشيائى؟ أرى بعضا منها على الأرض لكن لا أعرف إن كان على أن ألملمها، ماذا لو كان العملاق بانتظار أى حركة حتى ينقض على الكرة الزجاجية ويرميها؟ وهل ستنكسر هذه المرة؟
***
فى آخر كل سنة أتساءل عما مر بالعالم فسوى بعضا منه بالأرض، أبحث عن أحباء فقدتهم وأحاول أن أتذكر حالتى يوم سمعت بخبر ذهابهم. فى آخر كل سنة أحصد الأحداث وأسأل نفسى هل فعلا فقدنا فلانا؟ أم كانت مزحة ثقيلة من العملاق الذى يهز كرة الزجاج بين الحين والآخر؟ يظهر وجه صديق أعرف أننى لن أراه فقد ذهب، وأبكى إذ لم أذرف دمعة يوم سمعت خبره لكننى اليوم أطوى سنة وأشعر أننى أضغط على صوته بين الصفحات. أرجوك أن تعذرنى، فأنت ستبقى بين صفحات هذه السنة بينما أمضى مع آخرين إلى السنة الجديدة. سامحنى كان بودى أن تبقى معى لكنى ما زلت هنا أما أنت فلا.
***
تفتح آخر السنة كل طاقات قلبى، تدخل على كمية لا تحتمل من الشجن حتى أفقد قدرتى على التمييز بين ما ترميه بوجهى ذاكرتى من وجوه وأصوات، وبين ما يحيط بى فعلا. تفتح آخر السنة أيضا فى قلبى طاقات الحب والحنين والرغبة فى الجلوس لساعات متواصلة فى صمت مطبق وظلمة تحل على بالتدريج، إذ لا أريد أن أتحرك منذ الصباح وحتى هبوط الليل، أراقب تحول نور الشمس وتغير ألوان العالم من حولى. تتخذ السنة قسوة بالغة فى آخر أيامها فتذكرنى بأواخر كل شىء. وتتخذ أيضا فى الوقت ذاته بهجة ملونة بألوان أعياد الميلاد فتنبهنى أن ثمة بدايات للأشياء أيضا. تعيد هذه الفترة من السنة قصصا لمن سبقونى عن الشتاء والثلج وكرات الصوف التى تستخدمها الأمهات. لا أعرف إن كانت أمى قد استخدمت قط كرات الصوف ولا أعرف أصلا إن كنت رأيت الثلج فى طفولتى إنما أعرف أننى أصبح كرة من الصوف أنا نفسى فى آخر السنة تمتزج خيوطها وتحاول سيدة أن تفكفكها.
***
عملاق يحمل عالمى فى كرة من زجاج وسيدة كبيرة فى السن تحاول أن تفك خيوط الصوف بعناية. يدور بينهما حديث يبقى فيه صوتها هادئا، متزنا ودافئا. أما هو فيزمجر ويحرك أطرافه فتثير حركته الفوضى من حوله. هى تعمل ببطء وتركيز، تفكك الخيوط وتبدى ملاحظاتها دون أن تتوقف يداها: «هذه الصغيرة أدخلت نفسها فى معضلة دعنى أسحب الخيط بتأنى علنى أسحبها أيضا. هذا الطفل علق بين خيوط لا تخصه أعطنى يدك حتى أخرجك من هنا. هذا الشاب لف الخيط حول عنقه سوف أبعد الخيوط عنه دون أن أشعره أن ثمة من يتدخل فى حياته».
***
أما العملاق فهو يزمجر ويجيبها بضيق «دعينى أهز المجموعة كلها وننهى كل القصص معا، ما بك تضيعين وقتى ووقتك؟ هل يستحق هذا العالم كل هذا التأنى منك؟ يا ستى أعطنى كرتك الصوفية دعينى أرميها داخل الزجاج وأرج الكرة الزجاجية ونرى».
***
تتجاهله السيدة وتكمل عملها بدقة، وها هى تخرج شخصا بعد الآخر من الكرة الصوفية بعد أن فكت أسرهم وفكفكت قصصهم، تضعهم برفق على الطاولة قرب الكرة الزجاحية فينظرون إلى الكرة ويسألون إن كان هذا هو عالمهم الذى خرجوا منه للتو. ينظرون إلى العملاق ويسألونه «لماذا تهزنا وترعبنا وأنت لا تعرف شيئا عنا أصلا؟». ابتعد قليلا دعنا ننظر إلى من هم ما زالوا فى الداخل علنا نساعدهم على فهم ما حولهم.
***
ينظر من أخرجتهم السيدة من الصوف باهتمام داخل الكرة ويرون حياتهم بتفاصيل لم يروها من قبل. آخر السنة هى دوما مرحلة مثقلة بالحسابات: النظر فى أحد عشر شهرا ونيف، ماذا أخذت الدنيا منى وماذا أعطتنى؟ ماذا رميت أنا فى العالم وماذا حصدت؟ من رحل ممن أحب ومن بقى. هى كرة زجاجية أحاول أن أمعن النظر إليها علنى أفهم أكثر ما ينتظرنى. هى سيدة تحاول أن تفكفك القصص وعملاق يرمى بالكرة دون وعى. وأنا عالقة بين الاثنين، أقع تارة وأقف تارة أخرى.
كاتبة سورية