عن مفاسد الاستدانة وفتات العون الإنمائى

محمود محي الدين
محمود محي الدين

آخر تحديث: الأربعاء 11 ديسمبر 2024 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

صدر قبل أيام التقرير السنوى للبنك الدولى عن الديون الدولية، فأكد استمرار أخطر ما يواجه محاولات التنمية، وهو نضوب مصادر التمويل الخارجى إلا قليلا، واستنزاف مصادر التمويل المحلى لخدمة الديون المتراكمة. فبعد ارتفاع أسعار الفائدة لأعلى مستوى لها فى 20 عاما، أنفقت البلدان النامية 1.4 تريليون دولار فى خدمة الديون، كان منها ما يزيد على 400 مليار دولار من تكاليف الفوائد التى ارتفعت بمقدار الثُّلث. وفى هذه الأثناء تحولت التدفقات المالية من مقرضى القطاع الخاص إلى أرقام سلبية؛ إذ سحب دائنو القطاع الخاص من البلدان النامية تمويلا فاق ما قدموه لها بمقدار 141 مليار دولار منذ عام 2022.

 


وبعد ما أمسى الاقتراض من الأسواق الدولية عسيرًا على كثير من البلدان النامية لارتفاع أعبائه، لم يعد لها سبيل إلا المؤسسات التنموية الدولية التى منحتها مجتمعة 85 مليار دولار. قد يلبى هذا بعض الاحتياجات العاجلة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أهداف التنمية الحرجة فى البلدان الأفقر والأقل دخلا، ولكنه غير كافٍ بحال للبلدان المتوسطة الدخل. كما لا تحظى الدول المتوسطة الدخل بشروط تفضيلية للاقتراض من المؤسسات التنموية، كما تصطدم بأسقف للتمويل لا يمكن تجاوزها من هذه المؤسسات التى صارت المحدودية النسبية لرءوس أموالها المدفوعة، وخشيتها من فقدان تصنيفها الائتمانى المتميز، موانع لها من تقديم تمويل أكبر للبلدان المتوسطة الدخل.
وتجد اليوم بلدانًا نامية بين مقترض متعسر أعلن تعثره عن سداد الديون المستحقة، ومقترض يتحاشى التخلف عن سداد الديون بالتخلف فى التعليم والرعاية الصحية ومجالات الاستثمار الأساسية للتنمية. فعندما تتجاوز خدمة الدَّين نصف الموازنات العامة، على النحو المشهود فى بعض البلدان الإفريقية، فمن أين لها تمويل التنمية، وإن أُعدت بشأنها استراتيجيات مطولة؟ فبغير التمويل تنتهى استراتيجيات التنمية إلى ذكريات مؤلمة لطموحات تحطمت على صخور واقع غابت عنه أولويات، وطغى عليه سوء إدارة الموارد، وافتراضات سخية فى حسن ظنها فى تدفقات مُيسَّرة للتمويل الدولى.
والأدلة المحققة من تقارير تمويل التنمية، أن عهد المساعدات الإنمائية الدولية الذى شهد تغيرات منذ بداياته بعد الحرب العالمية الثانية، قد أوشك على المغيب. فقد تدفقت هذه المساعدات، جزئيا وضمنيا، كنوع من التعويض الرمزى عن النهب الاستعمارى لثروات الأمم المستعمَرة لعهود طال أمدها. ومن العجب أن أناسًا فى دوائر اتخاذ القرار يرددون عبارات عن عالم شديد التغير، والصراعات الجيوسياسية، ثم يدهشك اندهاشهم من تراجع التمويل الدولى المُيَسَّر، وصعوبة إقناع مصادره التقليدية بتعهدات جديدة، وتكرار النكوص عن التعهدات.
ليست هذه دعوة للتخلى عن بذل الجهود الواجبة لحشد التمويل الدولى من جميع مصادره، فهناك حجج مقنعة بمنافعه المتبادلة، إذا أحسن كل طرف الاستفادة منها فى إطار المشاركات الدولية. ولكنها دعوة لدراسة الواقع الدولى الجديد بتغير أوزانه الاقتصادية وتوجهاته السياسية.
كما أن الأمر يتطلب علاجًا لتفاقم الأزمة الراهنة الصامتة للمديونية الدولية، بخاصة مع تغير طوائف الدائنين الحاليين عما كان عليه الوضع من قبل، ولتنظر مثلاً فى نسبة دائنى نادى باريس اليوم التى لا تتجاوز 10 فى المائة من المديونية الدولية، مقابل وزنهم النسبى الذى بلغ 40 فى المائة عند بداية القرن. فهل يتسنى التعامل مع الدائنين الجدد بقواعد التعامل مع القدامى؟
والأجدى مما سبق أن تُراجع جذور أزمة المديونية الدولية. ففى حين رسخت أهداف التنمية المستدامة لإطار مرجعى للتطور الاقتصادى والاجتماعى والبيئى والحوكمة، فقد تركت الباب مُتَّسِعًا لكل دولة، كما ينبغى لها، لتبنى نموذج النمو المناسب لها. فهناك بلدان تبنَّت نموذجًا للنمو المتوازن الشامل للكافة باستثمارات فى البشر والبُنى الأساسية والتكنولوجية والبيئية، بتمويل يعتمد على تعبئة المدخرات والموارد المحلية وريادة القطاع الخاص، فنجَتْ من فخاخ الاستدانة. وهناك بلدان اختارت طريقًا اختلفت أولوياته، وكان الاعتماد فيها على مشاريع ذات توجه داخلى تتولاها بيروقراطيات الدولة وتمولها بقروض محلية أو خارجية، فجَنَتْ عواقب ما اختارت.
• • •
مع الإعداد للمؤتمر الرابع لتمويل التنمية الذى سيعقد بإسبانيا فى يونيو 2025، اقترحت للنقاش ملامح تتناول مسألة الديون والاستدامة المالية. وهى ترتكز على 4 قواعد:
أولا: معايير منع أزمات قادمة للمديونية بقواعد للاقتراض الحصيف والإقراض المنضبط.
ثانيا: اقتراحات لمرونة الحيِّز المالى العام للدولة، للاستثمار فى مسارات تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ثالثا: إصلاح البناء المالى العالمى، بما يحقق سرعة تسوية الديون العامة المتعثرة، وسرعة عودة الاقتصاد لمسار التنمية.
رابعا: مراجعة منهج التحقق لسلامة الديون للبلدان النامية المنخفضة والمتوسطة الدخل، بما يعكس أولويات الإنفاق على مجالات التنمية المستدامة، ويُدخل مخاطر تغيرات المناخ والطبيعة فى الاعتبار، ويميز بين الاستثمار والإنفاق الاستهلاكى، ويفرق بين مشكلات السيولة العارضة والمخاطر المؤدية إلى التعثر والتخلف عن السداد.
ربما أشار البعض لحلول تستند إلى مبادرات صدرت من مجموعة العشرين وغيرها لتسوية الديون، وربما اختصت بعض المبادرات ببلدان أفقر وأكثر عرضة للتقلبات، وقد يتبنى البعض الآخر نماذج تحتفى بالابتكار المالى وإجراءات المبادلة؛ فلا بأس من النظر فى مناسبتها حالة بحالة. ولكن هناك حلقات مهمة ما زالت مفقودة عمليًا، مثل مواجهة أزمات ديون البلدان المتوسطة الدخل، وكذلك التعامل مع الدائنين الرسميين الجدد، ومقرضى القطاع الخاص، وحالات الإفراط فى الاستدانة المحلية. وفى هذه المجالات بدائل متطورة، آن وقت طرحها للتطبيق.


نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved