رفاق الرحلة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 12 يناير 2017 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

مع بدء الاحتفالات بعيد الميلاد المجيد فى ديسمبر ٢٠١٢ دخلت لأول مرة شجرة الكريسماس إلى بيتى، اشتريت شجرة ضخمة وبعض اللعب الملونة وافترشت الأرض مع حفيدتى لتزيينها. كان شيوخ السلفيين يملأون الفضائيات بالتحذير من الاحتفال بالكريسماس تشبها «بالكفار والملاحدة»، وكان المناخ كله مناخا دينيا بامتياز ولا غرابة فى ذلك فمن يجلسون على مقاعد الحكم كانوا ينتمون لجماعة دينية بل تحتكر الدين لحساب أتباعها.

خشيت أن تنشأ حفيدتاى فى ظل هذا المناخ المسموم الذى يشطر المصريين على أساس الدين فاشتريت شجرة الميلاد ومن يومها صار هذا تقليدا سنويا ثابتا، أما قبل هذا التاريخ فكنت أشارك صديقاتى المسيحيات فى تزيين أشجارهن وكنا نخزن الزينة من العام للعام ونضيف لها كل مرة نجوما ذهبية أو أجراسا حمراء ونفرح معا لكل إضافة جديدة.


الآن ذهب الإخوان لكن بقى الفكر المتطرف متغلغلا فى العقول، هزنى من الأعماق حادث تفجير الكنيسة البطرسية، سمعت عمن ذبح مسيحيا بكل خسة وقد أتاه من خلفه فيما هو جالس أمام متجره فى أمان ــ أقول سمعت لأنى تعمدت ألا أقرأ التفاصيل، تلقيت كالعادة فتاوى تحريم المعايدة على المسيحيين فمللتها لكن أبدا لم يمل المفتون، وهكذا قررت أن أضيف إلى شجرة الميلاد هذا العام تقليدا جديدا.. أحكى عن أساتذة وأصحاب مسيحيين أثروا فى حياتى، ستكون انتقائية محاولتى بلا شك فإحصاء الكل غير ممكن لأن حياتى من ألفها إلى يائها تتخللها حروف هجائية لرفاق مسيحيين ــ وأظن غالبية المصريين كذلك.
***


فى الذاكرة مكان محفوظ للأستاذ مخلص جاد الله مدرس الفلسفة فى المدرسة الثانوية، أول من فتح عينى على كتب الدكتور زكريا إبراهيم واحتملنى وأنا أتهته فى قراءة «مشكلة الحياة» و«مشكلة الحب» و«مشكلة الحرية». هذه الكتب مثلت نقلة عظيمة فى حياتى لأنها أخذتنى من بطلات إحسان والسباعى فى «أنا حرة» و«بين الأطلال» إلى معضلات وجودية أكبر من سنى بكثير. سمح لى أن أقرأ ما يكتب من خواطر أدبية بين حين وآخر فداخلنى شعور عظيم بالزهو لأننى أقيّم أفكار الأستاذ وليس هو وحده من يقيمنى، تطوع بدروس خاصة أثناء توقف الدراسة خلال حرب أكتوبر وما كان معلوما متى تتوقف الحرب تحديدا، أما الموقف الذى لن أنساه له ما حييت فهو موقفه المدهش أثناء امتحانات الثانوية العامة. كنت أقف ووالدى ــ رحمه الله ــ فى أول أيام الامتحان فى انتظار تاكسى يقلنا إلى لجنة الامتحان، طال الوقت ومر تاكسى فآخر وبدأت أتوتر ثم تطور التوتر لبكاء فإذا الأرض تنشق عن أستاذ مخلص فى سيارته الفولكس السماوية يتوقف أمامنا ويعرض اصطحابنا للجنة، لم يكن هناك وقت للخجل أو التردد فدلفنا إلى داخل السيارة وصرنا أمام اللجنة قبل بدء الامتحان. وعد أستاذ مخلص أن يمر علينا كل أيام الامتحان تجنبا لمقالب التاكسيات واستجبنا فلم يتأخر يوما أو غاب. كان أساتذتنا يعلموننا القيم قبل العلم ويظهرون لنا وجها إنسانيا يضعهم منا فى منزلة الأهل لا الخصوم، وكان الأستاذ مخلص واحدا من هؤلاء.


***
صديقتى «هناء» لا ينفع معها القول إنها جزء من الذكريات فهى حتى رحيلها قبل ثلاثة أعوام كانت شريكة فى كل الذكريات. لا نعرف بالضبط على أى أساس نختار أصدقاءنا ونحن فى الرابعة من عمرنا، غالبا عوامل مشتركة تجعل هذا الإنسان بالضبط هو الأقرب إلينا، وتلك كانت هناء المعصرانى فكثيرا ما كنّا نجلس معا نعدد المشتركات بيننا ونضحك، ولدنا فى الشهر نفسه والسنة نفسها ونسكن الحى نفسه وانتقلنا معا من مدرسة لأخرى. وحتى عندما كبرنا فإننا تزوجنا من صديقين وبتعبير أدق فإن هناء هى التى عرفتنى إلى زوجى وصارت خروجاتنا الرباعية مصدرا لبهجة حقيقية.. نذهب معا إلى مسرحية «بكالوريوس فى حكم الشعوب» ثم نتناقش بعدها فى سمات النظم المستبدة، أو نشهد أول احتفالات الأوبرا بعد تجديدها ونتمشى على كوبرى قصر النيل نعلق ونثرثر. دخل أولادنا المدارس نفسها وتصادقوا وتعرفوا على عالم جريندايزر وهيمان فامتلأ بيتانا بأفلام وتماثيل هذه الشخصيات الأسطورية. هاجر مينا ويوسف للخارج وظلت هناء لا تبارح بلدها وإن أصبحت فى غيابهما جسدا بلا روح.. لا أستطيع العيش خارج مصر هكذا كانت تقول دائما، وبالفعل ظلت حياتها كلها لا تبرح هذا الوطن حتى إذا حانت لحظة الرحيل كانت الأقدار قد اختارت لها مصيرًا آخر، توفيت فى المهجر وهى فى زيارة قصيرة لولديها ودفنت بعيدا عن مصر التى أحبتها. لم أجرب إحساسا بأن جزءا منى قد مات إلا حين فقدت هناء.


***
أما هذا الرجل الذى دخل حياتى قبل عامين فحكايته معى حكاية. كنت قد زاملت المستشار منصف نجيب سليمان فى المجلس القومى لحقوق الإنسان قبل هذين العامين فلم أعرف منه إلا رجل القانون المخضرم، ثم شاءت الظروف أن ترتب مسارا ثنائيا لعلاقتنا عندما لجأت إليه فى قضية إدارية تخصنى فعرفته عن قرب ورب ضارة نافعة. رجل وطنى حتى النخاع، تعامل مع قضيتى بحسبانها قضية عامة لا قضية شخصية، وتصادف أن بدأت قصتى مع مروره بأزمة صحية حادة فكان يتحامل على نفسه بصعوبة: يكتب ويدقق ويدلل ويترافع مدافعا عن موكلته باستماته، حتى إذا حكم القضاء لصالحى والحمد لله بكى الرجل تأثرا وهذا فضل كبير. كنت أجلس إليه وأنا قلقة فيستخرج من جعبته العامرة ذكريات بالغة الطرافة عن تاريخ ما يقرب من ستين عاما من عمر القضاء المصرى، أو يروى آخر أخبار المزادات التى يهواها فيقل منسوب القلق. يمزج بين الإسلام والمسيحية فى سلاسة محببة ويستهل مذكراته القانونية بآيات قرآنية من كتاب مخصص لهذا الغرض يريد أن يقول إن للحق وجها واحدا فى كل الأديان، فلم تجد علاقتى به حاجزا أمامها لتنتقل من العمل إلى الصداقة الأسرية.
***


على امتداد سنين العمر هناك العشرات من الأشخاص الذين أناروا لى معالمه وأغنونى فكريا وعاطفيا بلا مدى، أشخاص جمعتنى بهم عشرة طيبة أقدرها حق قدرها، فإلى هؤلاء ــ سواء من ذكرتهم فى هذا المقال أو من لم أذكرهم ــ أقول ونحن نحتفل بمولد السيد المسيح شكرا لأنكم كُنتُم لى خير رفقاء الطريق، ولأننى بكم ومن خلالكم أثق أن الزبد الذى يطفو على السطح سيكون مصيره إلى زوال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved