حكايات من شمال غرب واشنطن
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الخميس 12 يناير 2017 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
قضيتان ظهرتا على سطح الأحداث المتعلقة بالحملة الرئاسية الأمريكية وكان لهما تأثير كبير سواء على طبيعة ومستقبل وتحديات الديمقراطية الأمريكية. من منا كان يتخيل أن تسيطر قصص متعلقة بالأخبار الكاذبة على تغطيات وسائل الإعلام المختلفة، ومن منا كان يتخيل أن تعود على السطح قضية التوازن بين حرية التعبير، والاعتبارات الخلافية والأمنية والأخلاقية من جديد.
ولا يبدو أن تطور الديمقراطية الأمريكية قد حصنها ضد مخاطر تتعرض لها مجتمعات العالم الثالث، ومن خلال مشاهدتى القريبة لحادثتين منفصلتين، يمكن تسليط الضوء على تحديدات حالية مستقبلية تتعرض لها أمريكا والعالم كذلك. فأنا أسكن فى أقصى شمال «شمال غرب» العاصمة الأمريكية واشنطن، ويبعدنى أقل من مائة متر عن حدودها مع ولاية ميريلاند المجاورة، وتتميز هذه المنطقة السكنية فى معظمها بالهدوء خاصة فى شوارعها التى يميزها انتشار الأشجار والمساحات الخضراء، إضافة للسناجب المتنوعة. وعلى الرغم من ابتعادنا عن البيت الأبيض وعن معالم واشنطن الرئيسية بما لا يقل عن ثمانية كيلو مترات، فإن منطقتنا جذبت بشدة اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية خلال الأسابيع الأخيرة، ليس لأنها صوتت بأكثر من 90% لصالح كلينتون، بل بسبب حادثتين شهدهما مطعمان بالمنطقة ولهما علاقة مباشرة بالحملة الانتخابية.
***
استضاف مطعم «ماجيانو» ويبعد عن بيتى أقل من 80 مترا فاعليات احتفالا كبيرا احتفاء بانتصار دونالد ترامب بالرئاسة ووصوله للبيت الأبيض. ويقدم المطعم مأكولات إيطالية، ويتكون من طابقين، الأرضى والذى يحتوى على عشرات الطاولات، والدور الثانى الذى يستخدم كقاعة للحفلات الخاصة. وسببت طبيعة هوية منظمى الحفل أزمة كبيرة لإدارة المطعم. فمنظمو الحفل كانوا مجموعة ممن يعتقدون بسمو الجنس الأبيض White Supremacists، وأسسوا معهدا بحثيا اسمه «معهد السياسة القومية» والذى يهدف بالأساس للتركيز على و«لدعم تراث وهوية ومستقبل الأمريكيين من أصول أوروبية». ولم يعلم المطعم مسبقا بهوية منظمى الحفل الذى حضره ما يقرب من 200 شخص دفعوا 10 آلاف دولار كتكلفة اجمالية.
وأدت تغريدات المحتفلين على موقع تويتر، والتى تضمنت صورهم ومقاطع فيديو للاحتفال والتى تضمنت استدعاء عبارات وإشارات نازية تنادى بسمو البيض إلى ردود أفعال غاضبة. وفور نشر هذه التغريدات تجمع عشرات المتظاهرين أمام المطعم احتجاجا على وجود هؤلاء العنصريين فى هذا المطعم الشهير والذى يعد جزءا لا يتجزأ من تاريخ الحى. ومنعا لوقوع أى صدامات، قامت الشرطة بتأمين خروج المحتفلين بعد انتهاء الحفل وباعدت بينهم وبين المحتجين. وغضب سكان المنطقة من ملاك وإدارة المطعم على تأجيرهم القاعة لهذه الجماعة العنصرية.
ودافع ملاك المطعم عن موقفهم ناكرين أى معرفة مسبقة بهوية المنظمين! وللتكفير عن خطاها تبرع المطعم بقيمة الحفل كاملة لأكبر المنظمات اليهودية الأمريكية بواشنطن، «رابطة مكافحة التشهيرAntiــ Defamation League».
وأثارت الحادثة لغطا قانونيا كبيرا. ماذا لو علم ملاك المطعم بهوية المحتفلين مسبقا، هل كان من حقهم رفض تأجير القاعة لهم؟ انقسم أساتذة القانون حول هذه النقطة التى رآها البعض سلوكا عنصريا مرفوضا حيث يُمكن ذلك أصحاب الأعمال من رفض تقديم خدمات لزبائنهم بناء على معتقداتهم ومواقفهم السياسية. ورأى فريق قانونى آخر أن من حق المطعم رفض تأجير قاعاته على خليفة الخوف «من وقوع أعمال عنف» بسبب وجود هذه المجموعة، أو رفضهم بناء على ما يسببه تواجدهم من آلام للعاملين بالمطعم من أصحاب الأصول المختلفة من سود ولاتينيين ومسلمين ويهود وغيرهم.
وانتهت زوبعة مطعم ماجيانو دون اتخاذ موقف واضح أو ظهور خط فاصل بين حدود حرية الاعتقاد السياسى والدينى، وبين الممارسات العنصرية والتمييز.
***
وعلى بعد ستمائة متر من منزلى يقع «كوميت» وهو مطعم بيتزا عائلى شهير أكثر ما يميزه هو وجود ثلاث طاولات بينج بونج داخله. وتقوم فلسفة المطعم على إضافة جو من البهجة فى المكان وتشجيع الزبائن وأطفالهم على لعب البينج بونج قبل أو بعد تناولهم الطعام وذلك دون أى تكلفة إضافية. وفى خضم الحملة الانتخابية الأخيرة، خرجت بعض المواقع الإخبارية التى تبث أخبارا كاذبة على الإنترنت لتدعى وجود شبكة سرية يديرها جون بوديستا مدير حملة كلينتون الانتخابية لاستغلال الأطفال جنسيا واغتصابهم فى غرف سرية داخل مطعم كوميت. وتم انتشار هذه الأكذوبة بعدما غرد بها ابن مستشار الأمن القومى الجديد الجنرال مايكل فلين.
وما كان من مواطن يسكن فى ولاية نورث كارولينا إلا أن يأخذ على عاتقه مهمه الكشف عن هذه الشبكة الشريرة. وجاء الرجل ويدعى إدجار ماديسون ويلش بعدما قطع مسافة تزيد عن خمسمائة كيلو متر للتحقق بنفسه ولتحرير هؤلاء الأطفال. والرجل أب لطفلين وشعر بواجب اجتماعى لأطفال فى سن أولاده. وأحضر الرجل معه بندقيته النصف آلية، واقتحم المطعم مطالبا بالكشف عن الغرف السرية التى يحتجز بها الأطفال الضحايا وتحريرهم. وبالطبع لم يعثر الرجل على شىء، ولم يؤذِ أحدا، هو فقط أطلق طلقة تحذيرية كانت كفيلة بإثارة الهلع وخروج رواد المطعم والعاملين به للخارج. وألقت الشرطة القبض على الرجل الذى لم يقاومهم، بل حاول إقناعهم بالبحث معه عن الغرف السرية التى ربما توجد تحت الأرض. وعُرفت الحالة باسم «بيتزاجيت» فى إشارة للفضيحة التى كان ضحيتها رجل صدق فقط ما نشره أحد المواقع الأخبارية المؤيدة لترامب.
وقبل الحادثة بيومين ذكر الرجل لأقرب أصدقائه فى رسالة تليفونية «علينا الوقوف فى وجه النظام الفاسد الذى يخطف ويعذب ويغتصب الأطفال أمام أعيننا». وينتظر الرجل حكما قضائيا قد يجعله يمضى العشرين عاما القادمة من حياته خلف أسوار السجون، فى حين لم يقترب أحد ممن نشروا الأخبار الكاذبة. ولا يعرف أحد كيف يمكن التصدى لظاهرة حلق ونشر الأخبار الزائفة ذات التأثير الكبير على اتجاهات الرأى العام وتفضيلاته.
***
منذ أيام ذهبنا لتناول العشاء فى مطعم كوميت، ولم تكن هذه الزيارة مثل سابقتها لنفس المطعم. فأول من استقبلنا على الباب الخارجى كان شرطيا مسلحا ابتسم فى وجوهنا قبل أن يرحب بنا. ثم شاهدت رجل شرطة مسلحا ثانيا واقفا أمام الحمام عندما ذهبت لاستخدامه. وعند مغادرتنا المكان لمحت سيارة شرطة منطفئة الأنوار بها شرطيان على الرصيف المقابل للمطعم. وتأكدت فى هذه اللحظات أننا نحيا فى عالم شديد الجنون.