أبواب الجحيم الإقليميّة..
سمير العيطة
آخر تحديث:
الأحد 12 يناير 2020 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
قامت الولايات المتحدة بغزو العراق عام 2003 وحلّت الجيش وخرّبت الدولة. لقد أدّى ذلك، كما كان متوقّعا، إلى خضوع العراق لتقاسم نفوذ بين الولايات المتحدة وإيران. البلدان اللذان خاض العراق معهما حربين قاسيتين، بالإضافة إلى «حرب» الحصار الاقتصادى الأمريكى الطويل، وكانت كلّ منها وراء سقوط ملايين الضحايا.
لم يكن من تقاسم النفوذ بين قوّتين متصارعتين أن يخلق استقرارا أو أن يستقرّ على حالةٍ ما. هكذا انطلقت الحرب الأهليّة العراقيّة وصعد نجم التنظيمات المتطرّفة ودخلت دول الخليج وتركيا، وكذلك إسرائيل وحتّى سوريا، فى الصراع بالوكالة على العراق. صراعٌ ما زال قائما حتّى اليوم. ووصل إلى ذروته مع ظهور «الدولة الإسلاميّة» («داعش») واقترابها، بعد سقوط الموصل فى صيف 2014، من التوصّل لاحتلال إربيل وبغداد ومثلهما المدن الكبرى فى سوريا. عادت الولايات المتحدة وإيران حينها إلى نوعٍ من التعاون غير المُعلَن لتحرير الموصل ولتحجيم «الدولة الإسلاميّة» إلى مجرّد تنظيم جهاديّ. كان طيران «التحالف» يقصف من الجوّ فى حين تقاتل فى البرّ ميليشيات الحشد الشعبيّ إلى جانب الجيش العراقى بنسخته المُحدَثة.
أعلنت الولايات المتحدة «الانتصار» على «داعش» لكنّها أبقت على قواعد عسكريّة فى العراق كما فى سوريا. وعاد الصراع على النفوذ بينها وبين إيران على العراق. فى ظلّ تفشّى الفساد وسوء الإدارة وعدم الاستقرار فى العراق ما لا يسمح لهذا البلد بالتقاط أنفاسه والتآم جراحاته المثخنة وإعادة الإعمار والانتعاش، رغم وصول إنتاجه من النفط إلى كميّات ملحوظة، وبسبب ريوعها. وبما أنّ هذا الصراع الخافت ليس قابلا للاستقرار، حتّى فى ظلّ توقيع اتفاقيّة لمنع إيران من امتلاك السلاح النووى، لجأت الولايات المتحدّة إلى «حرب» العقوبات الاقتصاديّة لمنعها من ملء الفراغ الذى أحدثه سقوط «داعش». إنّها حربٌ خافتة فى ظلّ إدارة الرئيس أوباما وصريحة وشرسة فى ظلّ إدارة الرئيس ترامب.
***
ليس العراق وحده موضوع الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، بل هناك أيضا الملفّ الأفغانيّ، خاصّة مع الفشل الأمريكى فى ترسيخ الاستقرار هناك، وكذلك الملفان السورى واللبنانى، اللذان يهمّان إسرائيل بدرجة أولى، وأخيرا وليس آخرا ملفّ «الخليج»، ليس لأنّ الولايات المتحدة تحتاج إلى نفطه بل بالتحديد؛ لأنّ الصين وأوروبا المنافستين تحتاجهما. لكنّ العراق هو ساحة الصراع الأهمّ طالما لم تقم فيه دولة قويّة تشكّل ندًّا وحسابًا حقيقيًّا للقوى الإقليميّة المتصارعة عليه. والواضح ألا مصلحة لأيٍّ من هذه الدول الإقليميّة، لا إيران ولا تركيا ولا غيرهما فى أن تقوم دولة قويّة فى العراق.
من هنا تكتسب الانتفاضة الشعبيّة العراقيّة القائمة اليوم أهميّة خاصّة. إنّها ليست انتفاضة على الاستبداد، على عكس مثيلاتها فيما يسمّى بـ«الربيع العربى». بل إنّها انتفاضة على «ديموقراطيّة» زائفة فرضها الحاكم الأمريكيّ عبر الدستور الذى صاغه وقوانينه التى ما زال يُعمَل بها إلى اليوم. انتفاضة من أجل إعادة بناء الدولة العراقيّة التى لا معنى لديموقراطيّة دونها، هذا خاصّة إذا ما استطاعت الانتفاضة أن تكسر التجاذبات الطائفيّة والقوميّة. انتفاضة تهدف لاستقلال القرار العراقيّ عن نفوذ الولايات المتحدة وإيران وتركيا ودول الخليج على السواء.
لن يكون مسار الانتفاضة العراقيّة سهلا. إذ إنّ ذات الولايات المتحدة التى أدّت سياساتها إليها تحاول أن تستغلّها فى معركتها مع إيران وتهدّد بعقوبات ضدّ العراق، وربّما تساعد على انفصال كردستان العراق ــ إذا ما طالب بتفكيك القواعد الأمريكيّة. وإيران لا تتحمّل خسارة نفوذها فى خضمّ حرب الحصار الأمريكى. هذا عدا أنّ أقبية «زعماء الطوائف» زاخرة بالمال السياسيّ الآتى من ريع النفط.
***
فى هذا السياق يأتى منعطف اغتيال الولايات المتحدة لقائد «فيلق القدس» على الأرض العراقيّة. ربمّا كان فى الأساس ردّا أمريكيّا على المناورات البحريّة المشتركة الإيرانيّة ــ الروسيّة ــ الصينيّة فى بحر عُمان، ما قد هدف للإشارة إلى قرب نهاية الهيمنة الأمريكيّة الكاملة على مياه الخليج وبحر العرب، وأنّ الصين الصاعدة قد خطت خطوة إضافيّة لبناء وجودها فى المنطقة لحماية مواردها من الطاقة. فى حين تكمُن الورقة الأمريكيّة الأساس فى ضبط أسعار النفط والتوتّرات التى تثار لتغييرها لإضعاف الصين وأوروبا سويّا. والولايات المتحدة تعى جيّدا أنّ خيار الاستقلال عن هيمنة القطب الواحد لأيٍّ من دول المنطقة يعنى أن تقوم الدول المعنيّة بموازنة علاقاتها مع جميع القوى العظمى وتنويع مصادر سلاحها وتبادلاتها التجاريّة. والمعنى هنا ليس إيران بالتحديد التى ليست لديها علاقات مع الولايات المتحدة، بل العراق وبالتوازى معه دول الخليج.
حبس العالم أنفاسه بانتظار الردّ الإيرانيّ الذى أتى أيضا على الأرض العراقيّة، ولكن بشكلٍ مضبوط كى يُخفِّض الطرفان التوتّر ويبقى السباق الاستراتيجيّ يأخذ مداه وتعود الانتفاضة العراقيّة إلى زخمها. ولا شكّ أنّ مسئولى المنطقة من مصر إلى الخليج إلى تركيا منشغلون اليوم بتحليل تداعيات هذا المنعطف وعبره بالنسبة لسياساتهم وطموحاتهم. الجميع يعى جيّدا أنّ ما يجرى الحديث حوله عن تراجعٍ أمريكيّ فى المنطقة لا صحّة له، بل إنّ الولايات المتحدة لم تكن يوما موجودة بهذا الزخم ــ وأحيانا عبر تصعيدات كبيرة ــ لكنّها تواجه تحديات حقيقيّة لأنّ العالم بات متعدّد الأقطاب ولأنّ طموحات هذه الأقطاب تتفاعل، وإن بشكلٍ بطيء، لبسط وقائع وتوازنات جديدة.
لا يبدو أنّ نهاية المطاف هى غزو أمريكيّ لإيران أو انفجار هذا البلد فى حربٍ أهليّة. وأن يعيد التاريخ نفسه فى تقاسمٍ لإيران بين «الغرب» وروسيا. بالتالى لا حل فى المنطقة دون انفراجٍ للعلاقات بين ضفّتى الخليج. ولكن لا يُمكن لهذا الانفراج أن يحدث دون عودة العراق دولة قويّة يُمكن أن تخلق توازنا مع إيران. بالضبط كما أنّه لا حلّ للخلاف بين الخليج وتركيا دون إنهاء الحرب الأهليّة فى سوريا وإيجاد حلّ سياسيّ للتجاذبات فيها وعودة دولة سوريّة توازن علاقاتها مع تركيا، كما تعيد توازنها مع إيران. هذا ضمن توافق بين الدول العظمى، يدخل فى صلب المفاوضات والتجاذبات القائمة بينها، لضرورة إرساء استقرار جديد فى المنطقة.
مسار انتفاضة العراق وقدرة العراقيين، بمن فيهم عراقيو كردستان العراق، على التوافق لاستعادة دولة مدنيّة قادرة وموحّدة مفتاح أساسيّ لحلول المنطقة.