11 يوما مات بعدها عبدالناصر
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 12 يناير 2021 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
قبل نحو 7 سنوات حققت الروائية العراقية البارزة إنعام كجه جى فيلما وثائقيا عن القيادى اليسارى الراحل الدكتور محجوب عمر واعتمد الفيلم فى مادته على ملف نشرته مجلة الطليعة أعده الروائى الطبيب إيمان يحيى المولع بالتاريخ إلى حد الهوس.
وكانت واحدة من أهم مفاجآت الفيلم ظهور الدكتور يسرى هاشم الذى قدم رواية مهمة حول مشاركة أطباء مصريين فى العمل بين صفوف المقاومة الفلسطينية خلال أحداث أيلول الأسود 1970 وكنت من بين شاهدوا الفيلم وتحمسوا لمشهادته ورأيت أنها تستحق أن تظهر فى سياق متفرد.
وبعد سنوات تولت أنعام كجه جى عمل ذلك وأعادت اسثتمار بعض الدقائق التى قدمها فى شهادته ودعمتها بمواد بصرية جعلت منها وثيقة تاريخية بكل المعانى.
وأتيح لى بعدها أن شاركت فى جلسات تجمع الدكتور هاشم مع صحبة من أصدقائه المشغولين بتاريخ هذا البلد ومساهماته كانوا يلتقون الثلاثاء من كل أسبوع على نيل القاهرة بصحبة الصديق سعيد عيد الذى يعرف كيف يستثمر فى طاقات من يحبهم ويحفزهم على إنتاج ما لديهم من أفكار ونفائس.
وعلمت أن هذا الطبيب يفتخر بعد 50 عاما من العمل أنه لم يتقاض أى اتعاب من مريض فقير أو غنى، إيمانا منه أن الخدمة الصحية حق من حقوق الإنسان.
والأسبوع قبل الماضى أهدت لى دار المحروسة كتابا من تأليف الدكتور يسرى هاشم وضع فيه خلاصة تجربته فى العمل مع أطباء الإغاثة لصالح فرق المقاومة الفلسطينية عام 1970.
والكتاب بعنوان جذاب وذكى هو «11 يوما مات بعدها عبدالناصر» ويتضمن شهادة حية وصادقة عن تلك السنوات التى كانت فيها مصر تقدم أعز ما تملك من رجال لصالح فلسطين، كانوا جميعا «أيقونات» نضالية كما عبر الصديق أشرف العشماوى فيما كتبه حول الكتاب.
ويحقق يسرى هاشم الأهداف التى يشدد المؤرخون اليوم فى التأكيد على أهمية رواية «التاريخ من أسفل»؛ حيث يمكن للجميع أن يكتبوا ما عاشوه لتغذية المؤرخين بأرشيفات جديدة ومادة تحرر التاريخ من طابعه الرسمى.
ولا تزال أحداث مثل أيلول الأسود 1970 تمثل لغزا كبيرا فى التاريخ العربى المعاصر، فلا أحد اليوم يمكن له أن يجد تفسيرا واحدا يبرر الاقتتال الذى دار بين القوات التابعة للنظام الأردنى وفصائل المقاومة الفلسطينية خلال الأيام الأخيرة من حياة عبدالناصر والتى كانت بمثابة «أسابيع الآلام، التى قدم فيه نفسه كمخلص للأمة العربية».
ولا يعرف شباننا اليوم فداحة ما جرى فقد تلقى ناصر رسالة من ياسر عرفات يطالب فيها بالتدخل الفورى وبكل الوسائل لإيقاف محاولات تصفية المقاومة الفلسطينية وأمام سعى الولايات المتحدة للتدخل فى الصراع بين قوات الجيش الأردنى والفلسطينيين كتب ناصر لملك الأردن رسالته الشهيرة: «أنى أتوجه إليكم مباشرة بنداء عربى صادق مخلص بأن يتوقف إطلاق النار بأسرع وقت ولو لمدة 24 ساعة لكى نتيح لأمتنا فرصة نحتاجها وطنيا وقوميا وحتى إنسانيا وقال فى رسالته إلى عرفات «إن الجمهورية العربية المتحدة تعتقد أن الشعب الفلسطينى هو العصب الحساس فى النضال العربى المعاصر» وتطورت الفكرة باتجاه إرسال وفد عربى برئاسة الرئيس السودانى السابق جعفر نميرى لتقصى الأوضاع فى الأردن والوقوف على تفاصيل ما يجرى هناك؛ حيث استمر القتال أكثر من 10 أيام.
وفى صباح 28 سبتمبر تم نشر الاتفاق الذى توصلت إليه اللجنة وشمل وقف شامل لإطلاق النار وخروج القوات العسكرية من المدن وعودة المقاومة الفلسطينية إلى ما كانت عليه قبل الأزمة وتشكيل هيئة برئاسة الباهى الأدغم رئيس وزراء تونس لمتابعة تنفيذذ الاتفاق وأجرت الأهرام تحقيقا صحفيا أجراه الكاتب الراحل أحسان بكر حول ياسر عرفات كشف فيه عن خطة تهريبه من الأردن إلى القاهرة لحضور مؤتمر القمة الطارئ فقد ظل عرفات 45 دقيقة يتجول فى شوارع عمان بينما الرصاص لا ينقطع فى شوارع العاصمة الأردنية ولم يستطع عسكرى واحد التعرف على عرفات الذى واصل سيره وعلى مقربة منه الرئيس السودانى جعفر نميرى؛ حيث التقيا معا فى مقر السفارة المصرية وخرج عرفات متخفيا فى زى كويتى تقليدى وركب سيارة الوفد الكويتى وصعد معهم إلى الطائرة الكويتية التى اتجهت به إلى القاهرة وبعد ساعات توفى عبدالناصر بينما كان أطباء مصريون منهم محجوب عمر ويسرى هاشم يقومون بواجبهم فى إنقاذ الجرحى وإعداد الجثامين فى مستشفى الإشرفية التى تم قصفها بعنف.
وإذا البعض يعرف تفاصيل ما جرى فى أيلول 1970 فإن ما يظهره كتاب يسرى هاشم هو التاريخ الحى المطمور تحت تلال من السرديات الرسمية، تاريخ يستقيظ بكل تفاصيله ويرسم جدارية تتصدرها ملامح الصورة الناصعة للدكتور محجوب عمر الحكيم الذى لا يزال عطاءه يحتاج لمئات المجلدات والشهادات فهو كما يظهر فى الكتاب رجل بحضور أسطورى وربما ساحر حقيقى، ما أن يضع يده على كتف شخص حتى يغير حياته تماما ويأخذه إلى التجربة التى تخلص كتاب يسرى هاشم من الدم فيها وأبقى على الأمل.