بشائر نهضة ثقافية جديدة
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 12 فبراير 2010 - 9:14 ص
بتوقيت القاهرة
عدت من معرض الكتاب منذ أيام مبتهجا. ولا أكتم القارئ شعورى بأن مصر قد تكون على أعتاب نهضة ثقافية جديدة، فى سلسلة نهضاتها المتكررة خلال القرنين الماضيين، والتى أتت كل منها فى أعقاب فترة من الانكسار والإحباط.
هذا التعبير بالتفاؤل ببداية حدوث شىء جيد فى مصر، ليس مألوفا بالطبع. فالناس فى مصر اليوم سواء فى الكتابات الصحفية، أو الأحاديث التليفزيونية، أو فى كلامهم اليومى، يبدون وكأنهم يتنافسون فيما بينهم فى محاولة اكتشاف شىء سىئ جديد لم يكتشفه أحد من قبل، وفى التعبير عن هذه الأشياء السيئة تعبيرات أكثر فصاحة وأشد إيلاما. كل هذا مفهوم، فأسباب السخط فى مصر كثيرة جدا اليوم.
ولكن ما رأى القارئ فى القول بأن هناك أيضا تطورات مهمة جدا تجرى من تحت السطح، وتختفى وراء كمِّ هائل من المنغّصات، ولكنها فى ذاتها تدعو إلى التفاؤل، بل التفاؤل الشديد، بقرب حدوث أشياء سارة جدا فى مصر.
من هذا ما أسميه بشائر نهضة ثقافية جديدة، ولكن شرح ذلك يحتاج إلى الرجوع إلى الوراء 42 عاما، عندما بدأت لأول مرة فى مصر إقامة معرض دولى للكتاب، ومقارنة ما كان يجرى فى المعرض فى تلك الأيام، بما يجرى فى معرض الكتاب اليوم.
إن من الصعب على شباب هذه الأيام أن يتصوروا كيف كان حالنا عندما كنا شبابا فى أواخر الستينيات. كانت مصر منغلقة على نفسها انغلاقا عجيبا، والأشياء التى كان ممنوعا استيرادها تكاد تشمل كل شىء، من الملابس إلى المواد الغذائية (عدا القمح)، إلى الأثاث ولعب الأطفال، إلى الثلاجات والسيارات...الخ، كان من الممكن استيراد هذه الأشياء نظريا، لكن الرسوم الجمركية كانت مرتفعة لدرجة تجعل استيرادها من شبه المستحيل.
كان لهذا مبررات اقتصادية وجيهة للغاية، ولكن لم يكن هناك مبرر مقبول للقيود الشديدة التى فرضت على استيراد الكتب والمجلات. كان لكل شىء استثناءات، ولكنها كانت استثناءات قليلة جدا، والمحظوظ من المثقفين أو من عشاق القراءة كان هو من يتطلب عمله كثرة السفر.
ولكن حتى فى حالة السفر، كان أقصى المسموح بتحويله إلى عملة أجنبية خمسة جنيهات مصرية، ولم يكن من الحكمة فى هذه الحالة أن تنفق العشرة دولارات (التى كنت تحصل عليها مقابل هذه الجنيهات الخمسة) على شراء كتب ومجلات، بل الحكمة أن تنفقها على أشياء أكثر إلحاحا مثل تلبية مطالب الزوجة والأولاد.
فى هذا المناخ أشفقت علينا مؤسسة اليونسكو فأصدرت كوبونات يستطيع المصرى أن يشترى بها الكتب عن طريقها، ويدفع ثمنها بالجنيه المصرى. ولكن كان هذا يتطلب إجراءات شاقة لا يصبر عليها إلا قليلون.
ثم تلطفت بنا الحكومة فأنشأت معرض القاهرة الدولى للكتاب فى 1969، حيث تدعى دور النشر الأجنبية لتعرض آخر إنتاجها من الكتب (إلى جانب دور النشر المصرية والعربية)، فيقف المثقفون المصريون وطالبو العلم صفوفا ليتفرجوا على ما يكتبه ويفكر فيه العالم، دون أن يكون من حقهم شراؤها إلا باتباع خطوات شاقة للغاية ذلك أن الناشرين الأجانب يريدون الاطمئنان إلى أن ما يحصلون عليه من جنيهات مصرية يمكن تحويله إلى عملاتهم الأجنبية، وهذا يتطلب موافقة رقابة النقد يكفى إذن أن ترى الكتاب، وربما أن تتصفحه، ثم تقيد اسمك كراغب فى نسخة منه، وتدفع ثمنه، ثم تنتظر أسابيع وربما شهورا، على أمل أن توافق رقابة النقد، فيرسل الناشر الكتاب إليك من الخارج.
أدى ذلك أن ضعفت رغبة الناشرين العرب من خارج مصر فى أن يأتوا بكتبهم إلى القاهرة، تجنبا لأعباء وتعقيدات هم فى غنى عنها. أما الناشرون المصريون فكتبهم موجودة على أى حال فى مكتباتهم طوال العام، وهكذا ظل الغرض الأساسى للمصريين من الذهاب إلى معرض الكتاب هو مجرد الاطلاع ولو من بعيد، عما تنتجه قرائح العالم، على أمل أن يعثروا على فرصة للحصول على الكتاب بطريقة أو بأخرى، من وراء ظهر الرقيب على المطبوعات، والرقيب على النقد الأجنبى.
نعم، لقد تغيرت هذه الصورة تماما، فما أسهل شراء الكتب الأجنبية الآن، وما أكثر الناشرين العرب الذين يأتون بكتبهم إلى معرض القاهرة. فقد ضعفت بشدة الرقابة على الكتب والمجلات الآن (على الرغم مما نسمعه من شكوى من حين لآخر)، وأطلقت حرية تحويل الجنيه إلى عملات أجنبية. كانت نتيجة ذلك أن تحول معرض القاهرة للكتاب إلى عرس حقيقى (أو إلى مولد) يقام مرة كل عام، ويبتهج له المثقفون والطلاب، ويأتى من أجله كثير من السياح العرب، فيحاولون الجمع بين زيارة القاهرة وزيارة المعرض.
وزادت نسخ الكتب المعروضة وعدد الزوار أضعافا مضاعفة، حتى أصبح منظر طوابير الشباب الواقعين أمام الشبابيك الكثيرة لشراء تذاكر الدخول، منظرا مبهجا حقا. لم يعد المعرض ظاهرة قاهرية، بل أصبحت تأتى إليه أعداد غفيرة من المحافظات والقرى من خارج القاهرة، تستطيع أن تتعرف عليهم بسهولة وهم يسيرون فى شوارع المعرض، إذ يأتى الرجل مع زوجته وأولاده لشراء الكتب، بعضها كتب سلفية ولكن بعضها أيضا فى موضوعات عصرية وكثير منها فى تعلم اللغات الأجنبية والكمبيوتر، وما يمكن أن يجدوه من كتب مخفضة السعر مما يحتاج إليه الأولاد والبنات فى المدارس أوالجامعات.
كل هذا سار ومبهج بلا شك. ولكن الذى لاحظته أيضا فى المعرض، وأخذ الكثيرون يلاحظونه فى السنوات القليلة الماضية من زيادة مدهشة فى أعداد الشباب المصرى المقبلين على قراءة كتب جديدة يكتبها كتاب مصريون جدد، من مختلف الأنواع، أدبية وسياسية واجتماعية، ويتجاوز توزيع الناجح منها عشرات الآلاف من النسخ، بعد أن كان نفاد طبعة من ثلاثة آلاف نسخة فى سنة واحدة، يعتبر نجاحا باهرا للكتاب، حتى لمؤلفين بأهمية نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم، مما ضاعف من عدد المكتبات الجديدة التى نسمع عن افتتاحها يوما بعد آخر.
ما الذى حدث بالضبط لإحداث هذه النتيجة؟
الظاهرة صعبة التفسير بمقدار ما هى مهمة قد يكون لانتشار التعليم دور فيها إذ مهما شكونا من تدهور مستوى التعليم فإن مجرد الزيادة الكمية فى عدد المتعلمين، مقترنة بالذكاء المصرى الفطرى، لابد أن تصحبه زيادة فى عدد القراء الأذكياء والكتاب الموهوبين، ولكنى أعتقد أن للانفتاح الكبير على العالم دورا فى إحداث هذه الظاهرة.
إن الانفتاح على النحو الذى حدث به فى ميدان الاقتصاد، كانت له أضرار محققة بالاقتصاد المصرى. ولكن الانفتاح الثقافى على العالم لابد أن يكون له دور فى نمو هذه الرغبة فى القراءة، وهذا الحافز على الكتابة، سواء كان هذا الانفتاح عن طريق السفر، أو الاختلاط الأكبر بالأجانب الوافدين إلى مصر، أو زيادة فرص الإطلاع على الكتب والمجلات الجديدة، فضلا بالطبع عن التليفزيون والإنترنت. إن لكل من هذه الصور للانفتاح على العالم أضراره وأخطاره، ولكن من الخطأ فى رأيى أن ننكر أن أى احتكاك بالعالم لابد أن يشحذ الذهن ويزيد الشوق إلى المعرفة.
إنى أتوقع أن تنشأ عن كل هذا نهضة ثقافية جديدة وقريبة فى مصر، سيجنى أولادنا ثمارها، وإن كان هذا لن يظهر على السطح إلا بعد أن يحدث انكسار فى الحاجز السياسى القائم الآن. تماما كما أن قيام ثورة يوليو 1952، كسر الحاجز الذى كانت تنتظر وراءه مواهب مصرية عظيمة، من أمثال مواهب يوسف إدريس وكمال الطويل وبليغ حمدى وصلاح جاهين وصلاح عبدالصبور.. الخ.