وطنى تحت شجرة برتقال
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 12 فبراير 2020 - 11:05 م
بتوقيت القاهرة
قرأت عن برتقال يافا فى كتاب للأطفال حين كنت فى الثامنة من عمرى وقبل أن أعرف عن السياسة وفلسطين والاحتلال وإسرائيل. أذكر أن أمًا فى كتاب الأطفال قدمت لطفلتها عصيرا قالت إنه من برتقال يافا، وظننت وقتها أن ذلك اسم البرتقال، تماما كما كانت جدتى تصف الباذنجان الصغير بأنه حمصى، أى من مدينة حمص، أو الفستق بأنه حلبى. لم تعن لى تلك المدن شيئا حين كنت طفلة، فقد حفظت الكلمات وارتباط الخضار والفواكه بالأماكن قبل أن أعرف شيئًا عن التاريخ والجغرافيا فظننت أن حمصى وحلبى هى أسماء.
***
اليوم أعيش فى مدينة جديدة، أضيف محطة إلى محطات يتوقف عندها القطار الذى أركبه مع عائلتى. أمشى فى شوارع أبنيتها من الحجر تحيط بها حدائق فأشعر بالألفة. علاقة فطرية تربطنى بالأماكن: تلتقط أجهزة الاستشعار داخل عقلى بعض الدلائل من العالم من حولى فيقرر قلبى إن كنت أستسيغ مكانا أم لا دون قرار واعٍ منى.
***
فى عمان، تلك المدينة الوديعة التى تشبه بقريبة فى العائلة لا تختلق المشاكل مع الآخرين وتنأى بنفسها عن المشاجرات، وجدت لنفسى حارات أهرب إليها وقت الضجر. أمشى بمحاذاة أسوار أتلصص من فتحاتها على أشجار البرتقال والأفندى والليمون. تظهر لى كلمات كتاب قرأتها فى طفولتى ورائحة سكرية تصلنى مع بخار فى المطبخ. مربى النارنج، تلك البرتقالة المرة التى لا يخلو منها بيت دمشقى، شجرة أراها على نواصى المدن المتوسطية كلها، من تونس إلى إسبانيا، تزين حباتها الشوارع وتتمايل بدلال على أغصان الشجر.
***
لأشجار الحمضيات فى قلبى مكان لم أدرك حجمه قبل أن أبدأ حياة التنقل التى اخترتها منذ قرابة العشرين سنة. لم أنتبه وقتها أن رائحة مربى النارنج سترافقنى حيث أحط رحالى فأبحث فى أى مدينة جديدة عن شجرة أقطف ثمارها لأبخر بيتى برائحتها وكأننى أباركه، أحوله إلى مطبخ فى دمشق تقف أمام الموقد فيه سيدة عقصت شعرها الأبيض تحت منديل من القطن، تحرك محتوى قدرة لونه ذهبى محمر.
***
كثيرا ما أحاول التقاط تفاصيل من أحاديث الأصدقاء تشى بما يحملونه هم أنفسهم فى بقجتهم حين يغلقون أبواب بيوتهم ويرحلون. اليوم ومع التغريبة السورية الهائلة وانتشار السوريين فى مدن لم نكن قد سمعنا عن بعضها من قبل، تكثر على وسائل التواصل الاجتماعى حلقات نقاش عن الحنين والمنزل والانتماء. وتكثر أيضا النقاشات المتعلقة بالمطبخ والوصفات. يشترك السوريون فى محاولات جماعية للبحث عن مصادر مكونات يحتاجونها فى مطبخهم أو مواد يستعيضون بها بدل ما يصعب عليهم أن يجدوه فى أماكن إقاماتهم الجديدة.
***
أتابع تلك النقاشات بينهم رغم وجودى دوما فى مدن يتوفر فيها دبس الرمان وحب الهال والكمون وماء الزهر، فأنا لم أعانِ قط من عدم توفر مواد أرصها فى مطبخى تماما كما رصتها أمى وجدتى فى مطابخهما. أفرح حين أسمع عن موسم مربى البرتقال حتى فى بلاد بعيدة وأتابع عملية صنع المكدوس فى مدن وصلها المكدوس، أى الباذنجان (الحمصى حصرا) المحشو بالجوز مع وصول أول عائلة سورية إليها.
***
لا مكان يجمع الناس كما يجمعهم المطبخ، لا حديث يهدئ النفوس ثم يشعلها كما يفعل حديث الطعام، لا اجتماع يجبر كل الحضور على اللقاء كما تجبرهم دعوة على العشاء يعد أصحاب البيت أن يقدموا فيها أطباقا تعيد أسماؤها إلى القلوب ذكريات مدن لا أعرف اليوم إن كانت ما زالت تشبه صورتها كما عرفتها.
***
برتقال يافا وزيتون فلسطين أخذوا فى قلبى موقعا جديدا منذ أن فهمت أهمية أن يصلنى من القاهرة مربى النارنج من صديقة سورية لفت العلبة بعناية فائقة وأرسلتها من بلد إلى بلد لا لسبب سوى أن تشاركنى لحظة ظهر فيها منزل وسيدة ترص المربى فى أوانٍ زجاجية لتحفظها سنة كاملة حتى موسم البرتقال التالى. صبت صديقتى حبات النارنج السكرية وأكلتها أنا فى مدينتى الجديدة فشعرت أن ثمة من مر بإبرة وخيط سحرى على حلقات ثلاثة فى حياتى فربطها منعا لبعثرتها. دمشق ــ القاهرة ــ عمان: شجرة نارنج كفيلة بأن تمد أغصانها عبر الحدود فتحتضن من أحب وتدعوه لأن يجلس تحتها أو يقطف ثمارها. أرى وجوه أشخاص ظهروا فى حياتى وبقوا فى قلبى يقطفون البرتقال ثم يرشون فوق قشوره السكر أمام موقد كبير فى طقس يكاد أن يكون روحيا لشدة جماله ونقائه فى ذهنى.
***
لا أعرف سر أشجار البرتقال والليمون فى قلبى لكنى أبحث عنها حيث أكون، وأقول لنفسى أننى لن أستطيع أن أعيش بعيدا عن أشجار البرتقال، فيها ما يكفى من الجذور المغروسة فى يافا ومن الأغصان ما يظلل على أطفال يلهون فى حديقة داخلية فى دمشق، فيها ما يغطى شبابيك مطبخ فى القاهرة من بخار أكتب عليها اسمى وأقول إننى من حيث زرع أجدادى البرتقال، وحيث حولت جداتى الثمار إلى مربى يصلنى اليوم فى عمان، تلك المدينة غير المشاكسة التى يكاد لا يميزها شىء سوى أحياء حاراتها مليئة بأشجار الليمون والنارنج والبرتقال تمد لى أذرعتها لتحسسنى أننى قريبة من جذورى.
كاتبة سورية