الحراك إلى الوراء
هاني شكر الله
آخر تحديث:
الخميس 12 مارس 2009 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
أسفرت انتخابات نادى القضاة الأسبوع الفائت عن سقوط آخر قلاع المد الديمقراطى الذى انطلق عام 2005، وهو عام التعديلات الدستورية والانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وحركة كفاية، وترشح أيمن نور لرئاسة الجمهورية، والدعوة الأمريكية لدمقرطة الشرق الأوسط الكبير انطلاقا من مصر. وكان أيضا وبامتياز عام القضاء المصرى، الذى وقف قسم كبير منه «متمحورا حول نادى القضاة» مدافعا عن استقلال السلطة القضائية، وعن الحريات، وعن إشراف حقيقى ونزيه للقضاة على الانتخابات، وعن حق الشعب المصرى فى انتخابات حرة نزيهة.
لست أدرى من بالتحديد هو أول من صك عبارة «عام الحراك السياسى» ليصف تلك الأشهر الحافلة والفوارة، وكنت فى الحقيقة قد تحفظت على المصطلح منذ أول ظهوره، رغم التوافق واسع النطاق عليه من قبل المعلقين السياسيين والقيادات السياسية، حكومة ومعارضة.
فهناك مصطلح أقدم وأكثر انضباطا من الناحية العلمية، وهو مصطلح «الحراك الاجتماعى»، ويعنى أساسا بديناميكيات الصعود الطبقى فى مجتمع ما، فضلا عن تغيير الموقع الاقتصادى ــ الاجتماعى «على سبيل المثال، هجرة الفلاحين إلى المدن ليصبحوا عمالا».
وكنت أظن بالتالى أن القول بالحراك السياسى يتعلق بظاهرة أخرى شديدة الاختلاف عن فورة المطالبة بالديمقراطية التى شهدتها البلاد فى 2005، وإن لم تكن أقل أهمية. فواقع الأمر أن قسما أساسيا من الصعود الطبقى عندنا جرى ولا يزال يجرى عن طريق السياسة وعبرها. ولعلنا نشير فى هذا الصدد إلى الأعداد الكبيرة من أثرياء اليوم الذين بدأوا حياتهم من أصول اجتماعية متواضعة، وجاء ارتقاؤهم السلم الاجتماعى عبر الاتحاد الاشتراكى والتنظيم الطليعى وتولى المناصب فى أجهزة الدولة المختلفة وقطاعها العام، أى عبر ما يمكن أن نطلق عليه بجدارة عبارة «الحراك السياسى».
وبصرف النظر عن المسميات (وكانت الصحافة الأجنبية بدورها قد بدأت فى الحديث عن «ربيع القاهرة» الديمقراطى) لم تستمر حالة الفوران طويلا، واقتصرت أو كادت على عام «الحراك» نفسه، الذى أخذت مكوناته الأساسية فى الأفول واحدة تلو أخرى: كفاية دخلت فى أزمة هوية لم تخرج منها بعد، طالت أيضا تفريعاتها المختلفة، الأمر الذى برهن ربما على أن الحركة ــ من حيث طبيعة تشكلها نفسها ــ لم تكن مؤهلة لأن تتجاوز حدود اسمها، أى رفض التجديد للرئيس حسنى مبارك، والسعى لقطع الطريق على احتمال ــ سرعان ما تبين عدم صحته وقتها ــ لترشيح جمال مبارك بدلا من والده.
الاضمحلال طال كل مظاهر «الحراك». المظاهرات شبه الأسبوعية (خلال 2005) أخذت فى التناقص الحاد، خاصة بعد أن قررت أجهزة الدولة أن «الحفلة» قد انتهت. أيمن نور أودع فى السجن، وتعرض حزبه لمؤامرات أمنية فظة، كان آخرها محاولة الاستيلاء على مكتبه فى ميدان طلعت حرب، وهو ما ترتب عليه إحراق المكتب، وكان يمكن أن يؤدى إلى تدمير البناية كلها. تحركات المدونين الشبان و«شباب الفيس بوك» التى طمحت لتسلم الراية من كفاية أخذت فى الأفول هى الأخرى بعد ضربات أمنية قاسية للإخوان المسلمين، وكانوا خلال العام يلعبون لعبة القط والفأر المعهودة بينهم وبين النظام، أعلنوا للجميع أنهم ليسوا على استعداد لتلقى الضربات العنيفة نيابة عن الآخرين، ليواصلوا الأخذ والرد، «يضربون ويلاقون»، متابعين تكتيكهم المميز قبل «الحراك» وبعده. سلالم نقابة الصحفيين وقاعتها واصلت دورها كـ«هايدبارك» وسط البلد بشكل أو آخر، ولكن جاءت انتخابات مجلس النقابة فى 2007 لتزيح «المعارضة» عن القيادة.
تهاوت القلاع واحدة تلو الأخرى، وكان آخرها، ولعله أكثرها إيلاما، تيار الاستقلال بين القضاة. وذهب «ربيع القاهرة» الديمقراطى كأن لم يكن، أثره الوحيد المتبقى يتمثل فى تلك المساحة المتنازع عليها دوما، والماثلة فى الهامش المتاح لحرية الصحافة، وما نجحت فى تخطيه من خطوط حمراء.
ولست مقتنعا فى الحقيقة بإلقاء اللوم لإخفاق هذه التحركات على الاستبداد والقمع البوليسى، فيصعب على حركة تستهدف مقاومة الاستبداد والقمع التذرع بوجودهما كسبب لفشلها، فهذا ببساطة محض مصادرة على المطلوب. ما الذى حدث إذن، ولماذا تجىء رياح التغيير الديمقراطى إلى عندنا وتتحول إلى نسيم عليل؟ لا توجد إجابة سهلة عن هذا السؤال مع الأسف، خاصة والأمر يبدو وكأننا إزاء ظاهرة عربية، وليست مجرد مصرية. ومع ذلك فلا شك فى أن عام الحراك السياسى نفسه استند إلى الكثير من الأوهام، تشمل أوهاما عن نوايا النظام السياسى فى تغيير نفسه، وأوهاما عن جدية الضغوط الأمريكية من أجل دمقرطة الشرق الأوسط، ابتداء من القاهرة، وأوهاما أشد على قوة التحركات الديمقراطية وعمق امتدادها الشعبى. وأذكر إننى كتبت وقتها «فى آخر مقال لى فى جريدة الأهرام ويكلى» أنه وإذا كان صحيحا تماما أن المجال السياسى المصرى قد دبت فى الحياة والحيوية بصورة لم نشهدها منذ أواخر السبعينيات، غير أن المشكلة الحقيقية تكمن فى أن هذا المجال السياسى لا يتجاوز حجمه بضعة أفدنة.
وهو ما يقودنا إلى ما يبدو مفارقة كبرى. فليست مصادفة أن الأسبوع نفسه الذى سقط فيه تيار استقلال القضاء فى انتخابات نادى القضاة، حقق إضراب للصيادلة نجاحا منقطع النظير، ونجح أصحاب وسائقو المقطورات فى تنظيم إضراب امتد فى أنحاء القطر، وفرض التنازلات على الحكومة.
وما حدث خلال الأسبوع الفائت كان مجرد تأكيد قوى ودراماتيكى لملمح جوهرى من ملامح حياتنا السياسية والاجتماعية فى السنوات، بل والعقود الأخيرة، ألا وهو الطلاق البين للسياسى والاجتماعى، لتكون سنوات أفول وتهاوى «الحراك السياسى» هى نفسها سنوات صعود فائق للاحتجاجات الاجتماعية بين فئات بالغة التنوع من زاوية موقعها الاجتماعى وما تحمله من مظالم ومطالب. ومن نافلة القول إن مثل هذه الاحتجاجات إنما هى وجه حيوى من أوجه الممارسة الديمقراطية فى أى بلد ديمقراطى، فالديمقراطية فى نهاية المطاف هى تجسيد لموازين قوى اجتماعية وسياسية وأيديولوجية وثقافية، وهى فى أفضل تحققاتها حصيلة لعملية تفاوض سلمية ومؤسسية ومتواصلة بين المجتمع والدولة وبين الفئات الاجتماعية المختلفة وبعضها البعض وبين كل منها والدولة، وبين سلطات الدولة الثلاث: التنفيذية، والتشريعية والقضائية، وأخيرا وليس آخر بين الصالح الخاص، للأفراد والجماعات، والصالح العام للمجتمع ككل.
ولعله فى ذلك الانفصال بين السياسى والاجتماعى يكمن التفسير الأعمق للإخفاق المتواصل لمساعى التحويل الديمقراطى لبلدنا، ولعجز لا يبدو منه شفاء لقواها السياسية.