عن نزيف مصر الذى لا ينتبه إليه أحد
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 12 مارس 2016 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
يمكن قراءة موقف البرلمان الأوروبى فى ضوء توصياته الأخيرة لدول الاتحاد بخصوص معاقبة مصر بعد حادث مقتل الباحث الإيطالى جوليو ريجينى من أكثر من زاوية، هناك زاوية آليات وديناميات صنع القرار على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبى، هناك زاوية الفجوة بين توصيات وسياسات الاتحاد وأجندة صنع القرار فى دوله فرادى، هناك زاوية مركزية الأوروبى الأبيض فى النظر إلى مشاكل الشرق الأوسط وعدم تحركه إلا إذا ارتبط الأمر بأحد مواطنيه، وكذا هناك زاوية المصالح كمحرك للقرارات، كما أن هناك زوايا أخرى مثل المؤامرات والرغبة فى إسقاط مصر وهى عادة زاوية الدوائر القريبة من السلطة المصرية أو المتطوعة للحديث باسمها.
كذلك يمكن قراءة المستقبل فى الأجلين القريب والمتوسط للعلاقات المصرية الأوروبية بشكل خاص أو المصرية الغربية بشكل عام، غالبا لن تكون التكهنات صعبة، فى الأجل القريب قد تمر العلاقات ببعض التوتر، تصريحات هنا وهناك، مناورات يمينا ويسارا، تلويح بالعقوبات، لكن على الأجل المتوسط من المستبعد اتجاه العلاقات إلى الانهيار أو إلى فرض عقوبات صارمة على النظام المصرى أسوة مثلا بعقوبات سبق وتم فرضها على إيران أو العراق أو السودان أو ليبيا من قبل المجتمع الدولى. فالغرب، وأعنى هنا تحديدا دوائر صنع القرار على المستويات الوطنية الأوربية والأمريكية، مازال يرى أن تكلفة تغييرات غير محسوبة فى مصر قد تكون عالية وغير متوقعة ولن يكون بمقدور هذه الدوائر الدخول فى مثل هذه المقامرات.
***
لكن بعيدا عن هذه التوقعات والقراءات من زوايا مختلفة، فإن هناك نزيفا مصريا غير مرئى بسبب تدهور حقيقى وملموس لمؤشرات الحريات وحقوق الإنسان والتضييق على المجتمع المدنى وما يشمله ذلك من سياسات التحرش المستمرة بالمنظمات الحقوقية والبحثية فى مصر، خسائر قد لا يراها المواطن المشغول بقصص المؤامرات، أو المثقف الذى وهب حياته للحديث باسم السلطة، معتبرا أن ذلك وطنية، وقطعا لن يراها صناع القرار فى الدوائر السياسية والدبلوماسية والأمنية المصرية المدفوعين بثقتهم التامة أن الأمور على ما يرام وأنه لو تأزمت فإن هناك آخرين سيدفعون الثمن، أرصد هنا نزيفا على أربع جبهات على النحو التالى:
• نزيف فى الشرعية السياسية لنظام الحكم المصرى: مصر الجمهورية منذ السبعينيات وبعد أن قررت الانتقال من معسكر عدم الانحياز (فى الواقع كانت منحازة للاتحاد السوفيتى) إلى معسكر الولايات المتحدة، هذا الانتقال الذى ارتبط بحزمة تحولات سياسية محلية وإقليمية ودولية (اقتصاد السوق وما يستتبعه ذلك من الارتباط بالمؤسسات والسياسات المالية الغربية، التعددية السياسية المقيدة، الصلح مع إسرائيل، التخلى عن دور المواجهة لصالح لعب دور الوساطة)، فإن جانبا من شرعية نظام الحكم فيها ارتبط بالدعم الرسمى الغربى فى شكل منح ومساعدات وصفقات ودعم سياسى. مصر (السلطة) لا تستطيع أبدا أن تفرض عزلة على نفسها كما يطالب البعض أو أن تجد بديلا للحلفاء الغربيين فى عالم تم حلحلة القطبية الاقتصادية والسياسية والعسكرية فيه لصالح تشبيكات ومناورات ومصالح متداخلة بين القوى الكبرى على الساحة الدولية. قد يرغب صناع القرار الغربيين فى استمرار الدعم ولكنهم فى النهاية يخضعون لضغوطات المجتمع المدنى والرأى العام ومراكز الأبحاث الذين أصبحوا أكثر قدرة على مشاكسة السياسيين الغربيين وإحراجهم أمام الناخبين وخاصة بعد أن طالت الانتهاكات مواطنيهم، وفى ظل تلكؤ وتسويف أمنى غير مسئول على الجانب المصرى، هذه المشاكسات تتحول تدريجيا إلى ضغوطات وستنجح إن عاجلا أو آجلا فى الحد من الدعم الغربى اللا محدود لمصر، ووقتها لن تطيق مصر شبه عزلة غربية ستفرض عليها وستفقد جانبا كبيرا من شرعيتها وثقلها فى النظام الدولى.
• نزيف مالى لصالح مقاولى الكسب السريع: المتابع لطبيعة الشبكات السياسية التى مازالت تدعم مصر فى الغرب سيجد أن معظمها مرتبط بجماعات ضغط ودوائر اقتصادية وأمنية تسعى لتحقيق مكاسب مالية فى شكل صفقات ربح سريعة، صفقات تعتمد على تمويل مشاريع عملاقة بأقل درجات أمان ممكنة، فى بيع سلاح بصفقات مغرية فى بلد ميزانيته أصلا مرهقة، فتواصل مصر النزيف المالى لأصحاب صفقات الربح السريع، الذين يستغلون ضعف أو انعدام الرقابة والمحاسبة لتحقيق مآربهم.
• نزيف القوة الناعمة والمركزية الإقليمية: ليس صحيحا أن قوة مصر الناعمة مقصورة فقط على محيطها العربى بفعل فنها وإعلامها ومثقفيها وسياستها وتاريخها، الحقيقة أن قوتها الناعمة أيضا كانت متمثلة فى أنها قبلة لفاعلين عدة من غير الدول فى الغرب، مصر كانت قبلة للباحثين، للمنظمات الدولية غير الحكومية، للجماعات الحقوقية، للمشاريع التنموية المرتبطة بتشبيكات حكومية وغير حكومية غربية، للمشاريع البحثية والأكاديمية المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بدوائر صنع القرار فى الغرب، لا يوجد باحث أو حقوقى أو سياسى أو إعلامى مهتم بالشرق الأوسط إلا وقد مر من مصر وعبرها، جزء من ثقلك وسمعتك كباحث فى مجالات الشرق الأوسط أن تكون قد مررت عبر بوابة مصر، باحثا أو كاتبا أو دارسا أو حتى متابعا، مصر الناصرية، مصر الجماعات الإسلامية، مصر الحركات الثقافية، مصر الريادة الإعلامية، مصر مصنع نجوم الفن والسينما، مصر الحرب والسلام، مصر بسبب هذه التنويعات وهذا الثقل على كل المستويات كانت مركزية فى كل الدوائر سالفة الذكر.
بعد ثورة يناير زاد هذا الاهتمام وتدفقت المشاريع البحثية والثقافية وتضاعف الاهتمام الحقوقى والسياسى والإعلامى، أصبح كل فاعلى مصر محل رصد ودراسة ومتابعة، هذا ما لم يفهمه الأمن المصرى ومثقفو الضرورة والاستثناء، هذه ليست مؤامرات، هذه فرص لمصر لم تحسن الأخيرة استغلالها بسبب ضيق الأفق وانعدام الكفاءة، الآن كل هذا الاحتفاء يذهب، مراكز الأبحاث والدراسات هربت إلى بيروت وعمان، المشاريع البحثية والثقافية تم إعادة توجيهها إلى تونس والرباط، المثقفون والإعلاميون والباحثون الغربيون أصبحوا يخشون زيارة مصر ويفضلون أن يتحدثوا من الدوحة واسطنبول، بدأت موجة جديدة من هجرة العقول بعد خروج العديد من الباحثين المصريين إلى أوروبا وآسيا وأمريكا وبعض الدول الخليجية، أصبحت الجامعات والمحافل الأكاديمية الغربية المهتمة بالشرق الأوسط توجه تحذيرات صريحة بعدم الذهاب إلى مصر باعتبارها دولة غير آمنة.
• نزيف السردية المصرية: الاستشراق فى الكتابات الأكاديمية بخصوص مصر يعود مجددا، ولكن هذه المرة على يد باحثين شرقيين بعضهم من أصول مصرية أو عربية وجد فى الأوضاع الحالية فرص ذهبية لتأسيس سرديات تشنف آذان الغرب بخصوص مصر، سرديات تضع مصر تحت المزيد من الضغوط والعزلة، سرديات تعتبر أن مصر فأر للتجارب ولكن هذه التجارب لم يعد من الممكن أن يقوم بها الرجل الأبيض وليقوم بها إذن هؤلاء بدعوى أنهم أقرب للثقافة والفهم، سرديات قد تبالغ أحيانا أو تخلق واقعا وفرضيات مصطنعة بالأساس لتعزيز مكانة هؤلاء وزيادة ثمنهم فى السوق، سرديات ستدفع مصر ثمنها غاليا فى المستقبل، لكن من السبب فى كل ذلك؟
***
حينما يأتى باحثا لدراسة الأحزاب أو النقابات المصرية أو حتى الجماعات الإسلامية فإن هذا ليس تجسسا ولا يستدعى أصلا أن يسترعى أى انتباه، لأن ذلك يعنى أن مصر بكل تناقضاتها، نجاحاتها أو إخفاقاتها، معارضتها أو حكومتها، حاضرة فى الأجندات الأكاديمية والغربية، أى نص مكتوب يتمتع بهيمنة وحضور تاريخى، فحينما يردد هذا النص جمل مرتبطة بمصر كالحديث عن الفاعلين السياسيين أو الحقوقيين فيها فإن هذا يعزز مكانة مصر فى الذهنية الغربية أو غير الغربية، يجعل مصر دائما حاضرة فى المحافل والنقاشات السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية! حينما يأتى دعما نقديا أو فنيا للمجتمع الحقوقى المصرى، فإن هذا ليس تآمرا ولا عمالة، بل هو تأكيد على أن مصر بلد كبير ومتنوع يقبل بالتعددية، فيه مجتمع مدنى قوى إذن فهى دولة قوية وواثقة.
ماذا يضير مصر أن يسافر هذا الحقوقى أو ذاك الباحث إلى مؤتمرات دولية حقوقية أو سياسية أو أكاديمية؟ أليس ذلك تأكيدا على الحضور والثقل والتنوع؟ هل حكومات بيروت، تونس، عمان، الرباط، الدوحة أو حتى اسطنبول بالضرورة أكثر أهمية للغرب من القاهرة؟ بالتأكيد لا، ولكن لأن هناك صناع قرار يعرفون كيف يسوقون لبلدانهم، متى تكون الشدة واللين، كيف يكون الشد والجذب، فإنهم استطاعوا لفت الأنظار واستغلال فرصة تغييب القاهرة بيد سلطتها لا بيد آخرين.
السياسات الحالية طالما أنها لا تتغير فستتحول مصر إلى بلد منبوذ، بلد معزول، بلد يتعامل معه البعض على أنه منكوب، بلد يسمع البعض عنه لا منه عبر وسطاء لأنه أصبح يلفظ الآخر. مدوا أيديكم إلى المجتمع المدنى، الحقوقى والبحثى والتنموى، شجعوا الحوار والتفاوض، أكدوا على سيادة القانون والدستور بإجراءات عادلة على المخالفين وقانونية وفقط، بلا تضييقات عديمة المعنى وشديدة السطحية والعشوائية على أعداء وهميين، التاريخ بالفعل يتجاوزنا وما لم نستفيق سريعا سنجد أنفسنا فى ذيل الأمم.
مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة.