الدستور الصغير و الدستور الكبير
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 12 أبريل 2011 - 1:55 م
بتوقيت القاهرة
نحن أسرى فكرة معينة عن الدستور، قد يكون الوقت مناسبا لإعادة النظر فيها. هذه الفكرة هى أن الدستور وثيقة يجب أن تتضمن كل قيم ومبادئ المجتمع، والإطار العام لتنظيم الدولة، وكذلك المبادئ العامة للسياسات التى يجب أن يتقيد بها التشريع والمشرع.
هذه ليست فكرة خاطئة، ولا هى سيئة بالضرورة، والعديد من المجتمعات المتقدم منها والنامى ينتهج هذا التصور. لذلك فإن الدستور يعلو فوق القوانين العادية التى يصدرها المجلس التشريعى، وهو أيضا وثيقة لا تصدر إلا من الشعب مباشرة من خلال استفتاء بحيث لا يكون تغييره ممكنا إلا بالرجوع مرة أخرى إلى الشعب. هذا كما قلت ليس غريبا ولا مستهجنا. ولكن من جهة أخرى فإن الدساتير ليست كلها متشابهة، لا فى الشكل، ولا فيما تتضمنه من مواضيع. بمعنى آخر، فإنه وإن كان الدستور من حيث المبدأ يجب أن يتضمن المبادئ العامة لتنظيم المجتمع والحقوق الأساسية للمواطنين وأسس تنظيم الحكم، إلا أنه توجد مساحة كبيرة من الاختيار فيما يتعلق بمستوى التفصيل والتحديد لكل دستور. ولنأخذ الدستور المصرى الذى تم إلغاؤه كمثال.
فهو كان يقع فيما يجاوز مائتى مادة، ويتضمن الحقوق والحريات الأساسية وتنظيم الدولة ونظام الحكم وبيانا للأسس التى تحكم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهذا كله ضرورى. ولكن كان الدستور الملغى يتضمن ــ بالإضافة إلى ما سبق ــ مواد عديدة حول النظام الاقتصادى للبلد، وطبيعة الملكية، والأخلاق العامة للمجتمع، وتفاصيل مبالغا فيها عن سلطات رئيس الدولة، وعن نظام إدارة جلسات مجلس الشعب، وعن المجالس الشعبية المتخصصة، وغير ذلك من الأمور التى إما يتم التعبير عنها بجمل فضفاضة يصعب أن يكون لها تطبيق واقعى، أو أنها أمور يجدر بها أن تصدر بقوانين لا أن تكون فى صلب الدستور ذاته.
انظروا مثلا إلى التزام الدولة وفقا للدستور بأن «.. ترعى النشء والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم» (من المادة 10)، أو إلى النص على أنه «يقوم المجتمع على التضامن الاجتماعى» (المادة 7) هل كان أى منهما مؤثرا فى تحقيق التضامن الاجتماعى أو توفير الظروف المناسبة للشباب؟ أشك فى ذلك، لأن النص الدستورى هنا يصعب أن يكون له أثر قانونى، وإنما ما يجعل الدولة تهتم بالشباب أو بالتضامن الاجتماعى هو أن يكون ذلك من سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وأن ينتخب الشعب مجلسا نيابيا يضع هذه القضايا فى أولوياته.
القصد إذن ليس عدم أهمية هذه النصوص والمبادئ العامة، وإنما طرح فكرة أن يكون فى مصر دستور أقل اتساعا وأقل تفصيلا وأقل دخولا فى مبادئ إنسانية ليس لها مدلول قانونى أو أثر عملى محدد. ولهذه الفكرة جانب مقابل لها. فالنصوص التى يتضمنها الدستور هى بطبيعتها مقيدة لكل ما يصدر عن مجلس الشعب بعد ذلك من قوانين.
هذه طبيعة الدستور، أن يكون معبرا عن ثوابت الأمة التى يوافق عليها الشعب مباشرة، فلا يجوز بعد ذلك لنواب الشعب أن يخالفوها من خلال سلطتهم التشريعية العادية. وهنا أيضا يلزم التوقف عند حكمة أن يتضمن الدستور نصوصا عن النظام الاقتصادى تكون قيدا بعد ذلك على سلطة الشعب فى سن القوانين.
بمعنى آخر فإن كانت الانتخابات القادمة سوف تكون وفقا لجميع التوقعات والآمال انتخابات نزيهة، ومعبرة عن الاختيار الحقيقى للشعب، فما الخوف أن يترك لنواب الشعب المنتخبين قرار سن القوانين الاقتصادية بالتشاور والتعاون مع الحكومة دون التقيد فى موضوع بطبيعته متغير ويتطلب التفاعل مع ظروف محلية ودولية متغيرة أيضا. والأهم من ذلك أن من سوف يقومون بسن هذه القوانين هم نواب الشعب المنتخبون بحرية ونزاهة. والاقتصاد هنا ليس سوى مثال واحد لما يمكن تركه للمجلس النيابى أن يحدده ويغيره وفقا لما يقدره ويختاره بتصويت حر. نعود إذن إلى الفكرة الأساسية، ما قيمة الدستور إذن إذا كان يمكن للمجلس التشريعى أن يتولى وحده سن القوانين؟ قيمته تظل كبيرة فى موضوعين رئيسيين: الأول هو الحقوق والحريات الأساسية للمواطن وللمجتمع (حرية الرأى، والعقيدة، والتجمع، والتنقل، والعمل، وما إلى ذلك مما يشكل حقوق الإنسان بالمعنى الواسع) والثانى هو تحديد الإطار العام لتنظيم الدولة والعلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
فى هذين الموضوعين هناك ضرورة حقيقية لكى يقول الشعب كلمته مباشرة وأن يضع قيودا على البرلمان لا يتجاوزها فى سن القوانين. ولكن فيما عدا ذلك هناك مساحة كبيرة من الحركة يمكن أن ينتقل فيها القرار من الشعب مباشرة إلى ممثليه ونوابه المنتخبين انتخابا سليما بما يحقق قدرا أكبر من المرونة ومن القدرة على التفاعل مع المتطلبات الفعلية لإدارة شئون البلاد.
هذه الفكرة أجدها على الأقل جديرة بالطرح والنقاش، أى فكرة أن يكون الدستور القادم أصغر حجما وأقل اتساعا للعديد من المواضيع والتفاصيل التى لا يلزم أن تكون فى الدستور. وهى فكرة لا تمثل مجرد طرح نظرى أو فارق فى الصياغة القانونية، ولكن لها فوائد محددة. أولاها أنها قد تخرجنا من حالة التوتر التى بدأت تنتاب المجتمع من أن الدستور القادم سوف يكون الوثيقة التى تحدد مصير حياة المواطنين للخمسين عاما القادمة، وبالتالى أن الانتخابات البرلمانية القادمة هى الفرصة الأخيرة لكى يتمكن كل تيار سياسى من تحقيق كل برنامجه فى ضربة واحدة.
فالدستور الأصغر يظل وثيقة خطيرة ومؤثرة لأجيال قادمة، ولكن لا يلزم أن يكبلنا بأكثر مما ينبغى. الفائدة الثانية أن إعادة قدر من الحرية للبرلمان القائم والمنتخب مباشرة لا ضرر منه لأنه فى نظام حر ونزيه سوف تكون القوانين التى يصدرها معبرة عن رغبة الشعب فى وقت إصدارها وقادرة على التغير مع تطور المزاج العام للناس وتطور قناعتهم السياسية والاجتماعية. نحن أمام عام كامل من الحوار الدستورى، وسوف تكون هناك فرصة لطرح العديد من البدائل والخيارات على الناس حتى يستعدوا ليوم الاستفتاء، فلا بأس أن يكون أول حوار لنا حول الدستور ذاته وما الذى ينبغى أن يتضمنه وما حدود ما يفرضه على المجلس التشريعى من قيود.