مصر والصراع فى اليمن
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الأحد 12 أبريل 2015 - 10:05 ص
بتوقيت القاهرة
النقاش فى مصر محتدم حول خطورة إرسال قوات مسلحة برية تخوض الصراع فى اليمن. الأغلبية العظمى من المشاركين فى النقاش يعارضون إرسال قوات إلى اليمن ذات الطبوغرافيا الصعبة، مذكِرين بماضٍ من نصف قرن مضى ليس إلا، لم يبرح مخيلة المصريين، وكيف يبرحها وهو الذى كان من أسباب هزيمة عسكرية فى سيناء وفلسطين وسوريا مازال المصريون وغيرهم من العرب يدفعون ثمنها يوما بعد يوم. وهى هزيمة عسكرية فسرت قوى الرجعية سببها على أنه التخلى عن قيمها واستبدال الحداثة بها. فى السنوات القليلة الطويلة ما بين يونيو 1967 والانسحاب المصرى الاضطرارى من اليمن، من جانب، وأكتوبر 1973، من جانب آخر، أخذت الدولة المصرية، من ناحية التنظيم والاستعداد للقتال على الأقل، بأسباب الحداثة كما لم تأخذ بها من قبل، ولكن فى منظور طويل المدى، وبناء على ما حدث بالفعل من بعد، يمكن التأريخ بحرب اليمن وبنتيجتها فى يونيو 1967، كبداية لتفكيك الحداثة المصرية، وهو تفكيك صار منهجيا فى العقود التالية.
•••
فى الستينيات من القرن العشرين كان الصراع فى اليمن بين الإمام المخلوع وأنصاره من القبائل، من ناحية، وقوى تطلعت إلى الانعتاق من الرجعية واللحاق بالعالم المعاصر، من ناحية أخرى. دخلت مصر الصراع لتناصر هذه القوى الأخيرة، بينما ساندت المملكة العربية السعودية الإمام وأنصاره. الإمام بل والإمامة كلها منذ سادت على اليمن فى القرن العاشر الميلادى من المذهب الزيدى، وهو من فرق الشيعة. ومع ذلك، لم يقدَم الصراع حينئذ على أنه مواجهة بين السنة والشيعة، وهو لم يكن يمكن تقديمه على أنه كذلك، أولا لأنه لم يكن، وثانيا لأن السعودية كانت مصطفة إلى جانب الزيديين الشيعة، وثالثا لأنه لم يكن يخطر ببال مصر المكافحة من أجل تقويم حداثتها أن تفسِر أى صراع سياسى تخوضه من منظور طائفى أو مذهبى. بعد نصف قرن من الزمان، فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، هل تقبل مصر هدم ما تبقى من حداثتها بالرضا عن تفسير الصراعات السياسية طائفيا ومذهبيا؟
مثل الزيديين، الحوثيون من فرق الشيعة غير الاثنى عشرية التى يدين بها شيعة إيران والعراق ولبنان. لم يشفع للحوثيين أن يكونوا مثل الزيديين من فرق الشيعة الصغيرة لكى يعيشوا فى ظل الإمامة ولو حتى كغيرهم من اليمنيين على مستوى معيشتهم البائس، بل عاشوا كأفقر سكان اليمن وأكثرهم تخلفا أيا كانت مؤشرات التخلف المأخوذ بها. وبعد الإطاحة بالإمامة، لم يتحسن حالهم فى نصف القرن الماضى سواء قبل الوحدة اليمنية فى 1990 أو بعدها، فى ظل دولة يمنية جمعت بين متناقضات التسلط والتفكك. هل تداخلت إيران فى الساحة اليمنية وساعدت المليشيات الحوثية فى تمردها وفى استيلائها على السلطة؟ ليس لدى المراقب المستقل مصادر للمعلومات موثوق بها ولكن هذا التداخل ممكن تماما. غير أن المهم هو ملاحظة أن التدخل الخارجى لا يمكن أن يحدث وأن ينجح إلا إن وجدت أسباب موضوعية له. واضح أنه فى حالة الحوثيين هذه الأسباب اقتصادية واجتماعية. واضح أيضا أن التدخل والدعم الإيرانيين للحوثيين ليسا واسعى النطاق، وربما كانت البينة على ذلك فى سهولة العمليات العسكرية التى تقودها القوات المسلحة السعودية فى اليمن.
والصراع الحالى فى اليمن مركَب. هو ليس فقط بين الحوثيين وأتباع على عبدالله صالح وخصومهم. هؤلاء الخصوم منقسمون حول شرعية الرئيس عبدربه منصور هادى، غير المقبول لدى الكثيرين منهم. ثم يوجد الصراع بين الإخوان المسلمين فى حزب الإصلاح وغيرهم ممن لا يقبلون بتطلعهم إلى الهيمنة على اليمن، ومنهم على عبدالله صالح وأتباعه. وثمة صراع بين أنصار تعزيز سلطة الدولة المركزية وبين المتمسكين بالولاءات الأولية للقبائل، وهو صراع يؤججه تنظيم القاعدة المعترض أصلا على مفهوم الدولة الوطنية. وأخيرا وليس آخرا توجد رغبة مجموعة معتبرة من أبناء الجنوب فى الانفصال والعودة إلى جمهوريتهم التقدمية إذا ما قورنت باليمن الشمالى والذى انتقلت صراعاته البالية إلى الدولة الموحَدة.
•••
الحداثة ليست بنايات فقط ولا هى إنتاج للسلع أو الخدمات وحدها. الحداثة هى أساسا منهج للتفكير وإطار تحليلى للعالم وللمسائل والمشكلات التى تعترضه. إن خضت فى التحليلات العرقية والعنصرية والدينية والطائفية والمذهبية فأنت تبتعد عن الحداثة وترتد إلى قيم الرجعية والبدائية، فالبشرية فى سعيها الدءوب من أجل السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لتحسين ظروف الحياة على الأرض، أخذت وبشكل متزايد بمبدأ المساواة وعدم التمييز بين الناس. صحيح أن هذا السعى لم يخل من تناقضات وهو لا يخلو منها حتى الآن. التناقضات من خصائص البشر بل وكل إنسان منا على حدة، ولكن فى منظور تاريخى طويل المدى ترسخت قيم المساواة ومثلها ومعها الحداثة. ولعله من المفيد التشديد على أن واحدة من الخصائص الأساسية للحداثة هى عدم الالتفات إلى من هو الفرد، رجلا أو امرأة، غنيا أو فقيرا، أوروبيا أو آسيويا، بوذيا أو لا دينيا، وإنما إلى ما يفعله، وقيمة ما يفعله هذا.
حتى إن اختار خصمك أن يحلل أى صراع من منظور متخلف فإن أول انكسار تلحقه به هو أن تختار أنت إطارا تحليليا متقدما يعكس طبيعة الصراع. الإطار الطائفى أو المذهبى لتحليل الصراعات جد خطير فى اليمن وفى غيرها، لأنه يترتب عليه استدعاء مباشر لاصطفاف اتباع الطوائف والمذاهب على جانبى كل صراع بصرف النظر عن انتماءاتهم الوطنية. فى مثل هذه الإطار تقويض للدولة الوطنية من حيث لا يدرى القائلون به. أيا كان الرأى فى نظاميهما السياسيين فلقد صمدت الدولة فى كل من العراق وإيران خلال ثمانى سنوات من حرب وحشية، لأن أيا منهما لم يلجأ إلى التحليل المذهبى للصراع بينهما.
الصراعات المركَبة والمتداخلة التى تنطوى على تناقضات اقتصادية واجتماعية لا تخاض بالسلاح ولا تسوَى به. السعودية نفسها تدرك ذلك، وهى لا تنفك تكرر أن هدفها الوصول إلى تسوية على طاولة المفاوضات. رئيس الجمهورية التركى، فى طهران، وبعد لقائه بمسئول سعودى كبير ذهب إليه، يستعد للعب هذا الدور الذى إن نجح فيه سيضيف إلى وزنه السياسى فى المنطقة وإلى رصيده فيها إضافة هائلة.
هذا دور أولى بمصر أن تلعبه ولكنه يستدعى منها موقفا مغايرا، لذلك الذى اتخذته حتى الآن فى اليمن. هل يغضب الموقف المغاير التحالف الخليجى فى وقت تشتد حاجة مصر إلى أعضائه لأسباب اقتصادية؟ هذا وارد ولكنه لن يكون إلا غضبا مؤقتا سرعان ما سينقشع عندما تتبيّن لأعضاء التحالف ولغيرهم القيمة الكبرى للمواقف التوفيقية التى تلعبها مصر فى المنطقة.
مواقف مصر فى اليمن وفى غيرها لا بد أن تليق بها، بلدا من تسعين مليون نسمة أنشأ أول دولة وطنية حديثة فى المنطقة، ومازال متمسكا بالحداثة وبقيمها.