ما الذى جرى بالضبط؟
ولماذا الآن؟
وما التداعيات المحتملة؟
الأسئلة الحرجة تتدافع دون إجابات تقنع.
فى مسائل السيادة والأمن القومى لا يصح الحديث بخفة وإصدار الأحكام بلا استبيان.
بنص الدستور فى مادته الأولى: «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شىء منها».
هذا قيد نهائى على فرضية «التنازل» عن جزيرتى «تيران» و«صنافير» الاستراتيجيتين فى البحر الأحمر.
إذا كانتا مصريتين فليس من حق أحد أى تنازل لا رئيس ولا حكومة ولا برلمان ولا حتى باستفتاء عام.
وإذا كانتا سعوديتين فالقضية تختلف.
الأدلة لابد أن تكون قطعية والوثائق مؤكدة والخرائط حاضرة.
لا تصلح المرويات الشفاهية وأشباه المستندات فى تأكيد ملكية الجزيرتين ونقل السيادة عليهما من مصر إلى السعودية.
أسوأ ما جرى فى ترسيم الحدود البحرية بين البلدين أن أحدا لم يجلس ليتفاوض وفق الخرائط والوثائق والأسانيد ولا الرأى العام اطلع على شىء مما حدث.
بحسب بيان مجلس الوزراء المفاوضات استمرت ست سنوات.
الكلام يصعب تصديقه، فإذا كانت الحكومة مقتنعة كل الاقتناع بملكية السعودية للجزيرتين وحقها فى استعادة السيادة عليهما، على النحو الذى بدا فى بيانها، فلماذا تأخر البت فى الملف طوال هذا الوقت؟
العبارات كلها غير منضبطة فى الدفاع عن الاتفاقية المثيرة للجدل.
هل كانت السيادة المصرية على الجزيرتين الاستراتيجيتين احتلالا أم إعارة أم حماية لهما من احتمالات ضمهما للدولة العبرية بقوة السلاح بعد استيلائها على إيلات عقب نكبة (١٩٤٨)؟
لكل مصطلح مغزى يناقض الآخر.
الأول، استخدمه الدكتور «محمد البرادعى» فى مقال قديم نشر عام (١٩٨٢) فى مجلة أمريكية للقانون الدولى استدعاه مركز المعلومات ودعم القرار بمجلس الوزراء ليؤكد صحة ترسيم الحدود المصرية السعودية واتفاقها مع القانون الدولى.
والثانى، استخدمه خبراء آخرون فى القانون الدولى للتدليل على أن السيادة المصرية الكاملة على الجزيرتين منذ عام (١٩٥٠) جرت بالتراضى والتوافق الكامل بين البلدين وأن الوقت قد حان لعودة الأرض إلى أصحابها.
والثالث، كان الأكثر تداولا فى تفسير الاتفاق الأخير، فالجيش المصرى تمركز فى الجزيرتين بهدف حمايتهما من الأخطار المحدقة، حارب فوقهما وضحى وبذل فواتير دم، وعندما خسر سيناء خسر بالوقت نفسه الجزيرتين، قبل أن استعادتهما بنقص فى السيادة وفق الملاحق العسكرية للمعاهدة المصرية الإسرائيلية عام (١٩٧٩).
تداخل المصطلحات المتناقضة فى دفاع واحد لتبرير الاتفاقية تعبير عن أزمة مستحكمة.
بصورة شبه كاملة استبعدت فرضية أن الجزيرتين مصريتان، وأن لمصر كامل الحق عليهما بتعبير الرئيس «جمال عبدالناصر» قبيل نكسة (١٩٦٧) مباشرة.
بأى معنى سياسى فإن السيادة على أية أرض لمن يضحى من أجلها ويموت فوقها.
لماذا ضحت مصر.. وماذا فعلت السعودية؟
سؤال فى التاريخ وحقائقه.
مع ذلك فإن أحدا لا يصح أن يجادل فى أحقية السعودية أن تطالب بما تراه متسقا مع مصالحها ورؤيتها فى مسائل الملكية والسيادة.
المشكلة أنه لم يكن هناك فريق مصرى لديه أية التزامات جدية تجاه إثبات الحق المصرى فى السيادة على الجزيرتين.
بتعبير منشور لأحد أعضاء الفريق المصرى: «لم نجد ورقة واحدة تثبت أن الجزيرتين مصريتان».
هذا افتراء كامل على الحقيقة التاريخية.
الدولة السعودية لم تتول السيادة على الجزيرتين فى أى وقت منذ تأسيسها مطلع الثلاثينيات من القرن الماضى.
أين سند السيادة فى التاريخ الحديث؟
فى وثائق التاريخ صلات لا يمكن إنكارها بين الجزيرتين ومنطقة الحجاز.
غير أن نفس الوثائق تؤكد أن الجزيرتين ترتبطان بسيناء ارتباطا وثيقا، وأن من يفرض سيادته على سيناء يضمهما إلى حوزته.
الحقيقة الأخيرة صلب أية استراتيجية عسكرية فى سيناء على مدى العصور.
بالنظر فى الخرائط القديمة منذ القرن الثانى الميلادى حتى بعثة «نابليون بونابرت» وما بعدها فإنه لا يمكن الفصل بين سيناء والجزيرتين ولا بين مضيق «تيران» والجزيرة التى تحمل الاسم نفسه.
لا يعقل أن تكون السيادة على المضيق مصرية والسيادة على الجزيرة سعودية.
من الصحيح تماما أن اتفاقية تعيين الحدود بين مصر الخديوية والسلطنة العثمانية فى أكتوبر (١٩٠٦) لم تتضمن أية إشارة إلى الحدود البحرية لكن ذلك لا ينتقص من الأحقية المصرية فى السيادة على الجزيرتين ولا يثبت أية أحقية لطرف آخر.
الكلام كله يحتاج إلى تدقيق وتثبت للحقائق التاريخية بأقصى درجة من الموضوعية.
إذا كان للسعودية حق فمن واجبنا أن نرده إليها.
وإذا كانت هذه أرضنا فليس من حق أحد أن يفرط فيها.
لا يمكن لأحد أن يتجاهل الغضب العام فى الشوارع وعلى وجوه الناس وفوق شبكة التواصل الاجتماعى.
إذا لم يكن هناك ما هو مقنع فنحن داخلون فى أزمة تشبه كرة الثلج التى تكبر بالوقت.
أخطر تداعياتها إفساد العلاقات المصرية السعودية على المستوى الشعبى.
الحديث عن القوة العربية المشتركة، الذى أشار إليه العاهل السعودى فى البرلمان المصرى، سوف يتحول من قضية توافق إلى موضوع نزاع.
إذا كان الاعتقاد العام بأنهما مصريتان فإن الحديث عن أى عمل عسكرى مشترك سوف يفتقد بفداحة أى دعم شعبى.
من الذى أصر على توقيع الاتفاقية الآن؟
ومن الذى أدرجها ضمن اتفاقيات اقتصادية وتجارية، كأنها بيع وشراء واستثمار؟
ومن الذى ربط نقل السيادة على الجزيرتين بمشروع الجسر؟
أين إسرائيل من ذلك كله؟
هذا أخطر الأسئلة.
هناك تأكيدات رسمية، مصرية وسعودية، أن الاتصالات مع إسرائيل سبقت التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
على أقل تقدير فإن الإسرائيليين كانوا حاضرين فى الصورة قبل عام ولم تكن هناك أدنى مفاجأة.
إذا وافقت إسرائيل على إدخال تعديل فى الملحق العسكرى لمعاهدة السلام (١٩٧٩) تنتقل بمقتضاه الالتزامات المصرية إلى السعودية فإننا سوف نكون أمام وضع جديد من «توسيع كامب ديفيد».
لن يمر شىء بلا ثمن.
ما سر الإلحاح على التوقيت فى لحظة تقرير مصائر الإقليم بعد الحرب فى سوريا؟
هل هناك شىء ما يطبخ فى الترتيبات المحتملة؟
السؤال لا يمكن تجنبه والحقائق سوف تتضح بعد حين.
لا يصح لأحد بالتعالى تجاهل غضب الرأى العام وحيرته وتساؤلاته الحرجة.
التجاهل كالتعالى سوف يكون ثمنه باهظا.
مثل هذه المسائل الحساسة تظل كالجرح الذى يستعصى على أى اندمال مهما طال الزمن.
إذا لم تكن الحقيقة واضحة فإن كل شىء سوف تضربه العواصف والزلازل.
الأداء العام بدا سيئا إلى درجة لا تحتمل.
كل تفسير بعد الحدث فهو تبرير.
بلغة القانون فإن كل ما صدر عن مجلس الوزراء ووزارة الخارجية ومركز المعلومات ودعم القرار من أشباه المستندات «مهدرة».
التبرير غير التوثيق وكل الكلام يحتاج إلى تدقيق وفحص حتى تستبين الحقائق أمام الرأى العام الغاضب وتصحح أية أخطاء فادحة ارتكبت.