من المعروف أن لكل شخص طريقته فى التعامل مع التوتر، ولكل شخص أدوات خاصة به يستخدمها لمواجهة يوم مزعج أو فترة عصيبة. وقد درج فى السنوات الأخيرة الحديث عن مواجهة التوتر من خلال الرياضة أو اليوجا أو عملية التأمل، أوالعودة إلى ما يسمى بالروحانيات أو ممارسة الشعائر الدينية.
***
أعترف أننى كنت قد دخلت إلى عالم التأمل واليوجا فى فترة من حياتى واتخذتها أسلوبا لمواجهة القلق لمدة سنوات، ثم تخليت عنها فى فترة لاحقة دون حتى أن أشتاق إليها. وأعترف أننى لم أتمحص فى موضوع القلق والتوتر عموما ولا أتعامل معه بشكل درامى أساسا، إذ لا أعتبر أن فى حياتى، وبالمقارنة مع هول ما أسمع عنه عند الآخرين، ما يشكل مادة درامية كافية حتى أبحث بشكل جدى عن أدوات استثنائية أواجه بها التوتر، وذلك على مبدأ «اللى يشوف مصيبة غيره تهون عليه مصيبته».
لذلك، فأنا لم ألاحظ فى البداية أمرا أصبح يتكرر عندى فى أوقات محددة: أوقات التوتر. هى رغبة ملحة أصبحت تجتاحنى بشكل واضح وبوتيرة متسارعة أخيرا. تتسلل هذه الرغبة إلى داخلى دون استئذان فتمسك بمجرى التنفس فى داخلى، وتوسوس فى أذنى دون توقف حتى أترك ما بيدى وأتحرك من مكانى. أمشى وكأننى على موعد مع شخص يهمنى، أتوجه دون تردد إلى مكان لم أكن أخطط لزيارته. أقف لدقائق طويلة أمام الشىء الذى أتيت لرؤيته وأتنفس بعمق، إذ تعود لى حينها القدرة على الشهيق والزفير.
***
هى رغبة بالوقوف فى حضرة الجمال. أو هكذا فهمت حين حصرت عدد المرات التى توقفت فيها عن العمل أو القراءة أو حتى الحديث دون مبرر واضح، واتجهت نحو مكان وكأننى كنت قد خططت لذلك المشوار. قد يكون معرضا للوحات فنية أفتتح أخيرا، أو محلا لبيع الحلى الفضية القديمة فى سوق خان الخليلى، أو حفلة موسيقية أقرر فجأة ودون سابق تفكير أننى سوف أحضرها. اكتشفت أخيرا أننى، وفى الفترات العصيبة، يحتاج عقلى إلى أن يتوقف أمام الجمال، أيا كان نوعه، سواء جمال المنظر أو الصوت، قد يكون جمالا بمفهومه المتعارف عليه، أى عمل فنى أحب ألوانه أو قطعة زاهية من القماش المطرز أو الخرز الملون المتلألئ فى شمس السوق الصباحية. أو قد تكون موسيقى أو نغما يخرج من مكان دفين فى داخلى، فلا أتمكن من التعرف عليه أول الأمر على الرغم من أنه ينمو فى داخلى وكأنه جذع نحيل رقيق لحبة عدس زرعها ابنى على قطنة مبلولة. من منا لم يجرب الزراعة بهذه الطريقة؟ ينمو الجذع بسرعة بلونه الأخضر ووريقاته الفرحة، تماما كما تجتاحنى النغمة التى أتذكر معها سهرة ووجوها كنت قد نسيتها.
تعطشى للجمال فى الأوقات العصيبة قد يسقيه وجه لفحته سنوات من الشمس ومواسم من الهواء الجاف، فحفرت قرب العيون خطوطا جعلت النظرة أكثر سحرا ودفئا. ترانى أنظر فى خريطة وجه السيدة فأرى عينيها البنيتين تلمعان فوق غمازة على خدها الأيمن. كم عمرك يا جميلة، أتوق إلى أن أسأل دون أن أتجرأ.
***
قد يفسر علم النفس ذو الطابع التجارى، الذى نراه فى المجلات، أن لكل منا سلاحا لمواجهة ما نعتبره بشعا. فنحمل درعا نلصق عليه، فى الجهة التى نراها، صورا محببة إلى نفسنا، تقابلنا حين نرفعه فى وجه ما نكره. أنا من جهتى قررت أن ألصق فى الجهة الداخلية للدرع قطعا من قماش الحرير المطرز، ذاك الذى كانوا ينسجونه على نول يدوى فى الحارات القديمة، أتلمسه فى أشد لحظات غضبى فأرى فيه وجوها كنت أراها فى الصور المرصوصة بجانب بعضها البعض فى بيت العائلة. قرب القماش، ترانى أفرد كلمات محمود درويش ونزار قبانى التى تحاور دمشق وتتغزل بها، أرسم تلك الكلمات بحبر أزرق نسميه فى دمشق «اللون النيلى» نسبة لجمال لون نهر النيل. وبما أننا نكون فى تلك اللحظات شديدى الصدق، فسوف أعترف أننى لا أحب من شعر نزار سوى ما كتبه عن دمشق وعن حبه لمدينتى ومدينته. هذه الدرع درعى لذا فأنا حرة فى ما ألصقه عليه. وهذا الغضب غضبى فأنا أيضا حرة فى ما أختاره من الجمال لمواجهته.
***
أنظر أمامى فأرى الأحرف الزرقاء على القماش المطرز بخيوط الذهب، فى أذنى صوت صباح فخرى، وبقربى تجلس امرأة فى عينيها جمال البشرية كلها. أنا أبحث عن الجمال فى أيامى السوداء فأستعمله درعا يقينى ممن حولى ومن نفسى، يقينى من الانجراف فى رمال متحركة تهدف إلى أن تفقدنى توازنى. أنا أبحث عن الجمال كطريقة أعالج من خلالها جروحا جديدة أو ندبات قديمة، تذكرنى بأن الأفكار السوداء لا تأتى دوما إلا بالجملة.
أنا أجلس مع صديقة لم أكن على موعد معها، لكننى أشعر أن جمال روحها ودفء صداقتها هو ما أحتاجه فى تلك اللحظة، ويبدأ جذع حبة العدس فجأة يدغدغ قلبى وهو يهمس اسمها. بدأت أخيرا بالإصغاء إلى ذلك الصوت الذى يبدأ خافتا فى أوقات الشدة وهو يردد اقتراحات عادة ما كنت أحاول أن أتجاهلها. لكننى بدأت أفهم أن الانصياع لحاجة قد تبدو غريبة عن الموقف، كالهروب إلى لوحة أو معانقة صديقة وضمها إلى صدرى هو الجمال بعينه.
***
هناك جمال يرد الروح، أو بالأحرى يرد لى روحى.
كاتبة سورية