الجزائر والسودان أو عن التذكير بحقائق السياسة العربية
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 12 أبريل 2019 - 11:45 م
بتوقيت القاهرة
فى الجزائر والسودان، يدلل الحراك الاحتجاجى الراهن على عدة حقائق أساسية بشأن السياسة العربية يرغب كثيرون فى تناسيها.
الحقيقة الأولى: قد تبتعد الشعوب المحرومة من الحرية عن طلبها تحت ضغط الأوضاع المعيشية القاسية أو بفعل الخوف من آلات القمع الأمنية التى تحركها الحكومات كيفما شاءت. غير أن ذلك الابتعاد يتراجع حين تفقد الشعوب الأمل فى أن يرتب صبرها على الحرمان من الحرية تحسنا ملموسا فى أوضاعها المعيشية أو حين تتثبت من أن فساد الحكومات حتما يحول دون إنجاز تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تجنى ثمارها الأغلبية. عندها، مثلما يبين الحراك الراهن فى الجزائر والسودان، تشتد وطأة المعاناة من الحرمان من الحرية ويتبلور إدراك شعبى يصير معه طلب الحرية مرادفا لطلب تحسين الأوضاع المعيشية. ويدفع هذا الترادف قطاعات واسعة من المواطنين إما إلى الضغط الاحتجاجى الهادئ على الحكومات لإدخال إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية جادة أو إلى الخروج المندفع إلى الفضاء العام لانتزاع التغيير المنشود والحيلولة بين الحكومات وبين تجاهل مطالبهم.
***
الحقيقة الثانية: للمشاعر الجماعية للناس أيضا دورها فى حملهم إما على الابتعاد عن طلب الحرية أو على الضغط من أجل الإصلاح والتغيير.
فى الجزائر، شعرت أغلبية المواطنين بإهانة كبرياء وطنهم وكبريائهم هم ما أن امتنع الرئيس بوتفليقة عن إعلان عدم ترشحه لعهدة خامسة وهو الذى كان غائبا ومنذ فترة ليست بالقصيرة عن الإدارة الفعلية لشئون البلاد بسبب المرض. شعرت أغلبية المواطنين الجزائريين بالإقصاء التام من قبل نخبة الحكم التى أحاطت بالرئيس بوتفليقة وأرادت تمرير بقاء الرجل المريض على المقعد الرئاسى واستمرارها هى فى ممارسة السلطة من ورائه دون رقيب أو حسيب. وقد كان للحضور الطاغى لذلك الشعور الجماعى بإهانة كبرياء الوطن أثره فى حمل الناس على الاحتجاج رفضا ليس فقط للعهدة الخامسة، بل رفضا أيضا لغياب الحرية التى اقتنعوا بمسئولية غيابها عن سيطرة نخبة حكم فاسدة على شئون البلاد وأدركوا أن قبولهم للمقايضة على الحرية نظير تحسن أوضاعهم المعيشية لم يعد يجد نفعا.
أما فى السودان، وكما يوضح القليل المتوفر من استطلاعات الرأى العام، فقد تبلور خلال السنوات الماضية شعور جماعى باليأس من قدرة حكومة الرئيس المطاح به البشير على إخراج السودان من أزماته الكثيرة. نهش كل من العنف والقمع الممنهجين لحكومة البشير، سواء فى مدن المركز ضد الحركات الاجتماعية والسياسية المعارضة أو فى الأطراف فى دارفور وكردفان وغيرهما، جسد السودان المنهك وأمعن فى إدماء شعب لم يستفق بعد من مأساة انفصال جنوب السودان. وكان أن نجم عن ذلك شعور عام باليأس، انقلب مع اتضاح عزم البشير إطالة أمد بقائه فى السلطة إلى إصرار على طلب الحرية والتغيير الآن وفورا وهو ما دفع المؤسسة العسكرية إلى الإطاحة به.
***
الحقيقة الثالثة: عند اتضاح عزم الشعوب على طلب الحرية ونزوعها إما إلى الضغط الاحتجاجى الهادئ على الحكومات بغية الإصلاح أو إلى الخروج المندفع إلى الفضاء العام لانتزاع التغيير المنشود، يظل الخيار الآمن للشعوب هو أن تقبل الحكومات، من جهة، التراجع عن ممارساتها السلطوية وتشرع أبواب السياسة التى تسيطر عليها والمجتمع الذى تعمل فيه آلات قمعها الأمنية على تحولات ديمقراطية تدريجية. ومن جهة أخرى، يرتبط قبول الشعوب للتحولات الديمقراطية التدريجية بتواكبها مع تبنى الحكومات لإصلاحات اقتصادية واجتماعية جادة ومع شروعها فى مواجهة فعلية للفساد على نحو يستعيد للمواطنين شيئا من الأمل فى قرب تحسن أوضاعهم المعيشية ويجدد بعضا من ثقتهم فى الحكومات وفى مؤسسات الدولة. أما حين تمتنع الحكومات عن التعاطى الإيجابى مع طلب الشعوب للحرية والإصلاح والتغيير وتوغل فى التحايل إن بإصلاحات شكلية أو بتكتيكات التعطيل المعتادة، فإن الطرفين، الشعوب والحكومات، يزج بهما إلى مساحات سياسية ومجتمعية تحيط بها أخطار غياب الاستقرار وانفجار العنف الرسمى والعنف الأهلى وانهيار المؤسسات.
ربما تسمح تطورات الأيام الأخيرة فى الجزائر بالتفاؤل الحذر بشأن إمكانية الاقتراب شعبا وحكومة من الخيار الآمن المتمثل فى تحولات ديمقراطية تدريجية وإصلاحات اقتصادية واجتماعية ومواجهة للفساد، تبدو الحالة السودانية ــ مع بالغ الأسف وعلى الرغم من الإطاحة بالبشير ــ على شفا السقوط فى غياهب الامتناع الحكومى وتحايل المؤسسات النافذة فى الدولة وليس لذلك سوى أن تعمق من أخطار عدم الاستقرار والعنف الحاضرة بالفعل.
***
الحقيقة الرابعة: يفصل بون شاسع بين أن يتمكن الحراك الاحتجاجى للشعوب فى حمل الحكام على الاستقالة أو التخلى عن رغبة البقاء الأبدى فى سدة السلطة، وبين النجاح فى دفع الحكومات ونخبها بمكوناتها المختلفة ومؤسسات الدولة على قبول حدوث تحولات ديمقراطية تدريجية وعلى تبنى إنفاذ إصلاحات اقتصادية واجتماعية جادة. فأمر الحكام قد يسهل الوصول إليه ما أن تقتنع مكونات مؤثرة فى النخب ومؤسسات نافذة بحتمية استبعادهم وتشرع فى البحث عن البديل، كما أن استبعاد الحكام يظل فعلا أحاديا ومحدود المدى الزمنى يمكن تحقيقه الآن وفورا دون أن يعنى ذلك حتمية الانفتاح لا على تحولات ديمقراطية ولا على إصلاحات جادة (حالة مصر ٢٠١١ نموذجا). ولا يتعثر استبعاد الحكام إلا فى حالة وحيدة، هى بقاء المكونات المؤثرة فى النخب ومؤسسات الدولة النافذة على ولائها له (حالة سوريا منذ ٢٠١١ نموذجا).
أما الانفتاح سياسيا ومجتمعيا على التحول الديمقراطى والإصلاح الاقتصادى والاجتماعى وعلى مواجهة الفساد فذلك أمر يتمايز جذريا، إن لجهة تعقد مستوياته كفعل أو فيما خص مداه الزمنى الطويل. فما لم تتألف مصالح المكونات المؤثرة فى نخب الحكم وإرادات المؤسسات النافذة فى الدولة، خاصة المؤسسات العسكرية والأمنية، على قبول التحول والإصلاح وتتوافق على مزيج من التنازل عن بعض والاحتفاظ ببعض امتيازاتها السياسية والمجتمعية نظير تمكين الشعوب تدريجيا من الحرية وشىء من المشاركة فى الشأن العام، فإن الديمقراطية كتداول سلمى للسلطة وحكم للقانون والإصلاح الاقتصادى والاجتماعى كإعادة لتوزيع ثروات البلاد على الشعوب ومواجهة الفساد كمقوم رئيسى لإنجاز التنمية المستدامة قد تتعثر جميعها.
وفى هذا لنراقب الحالتين الجزائرية والسودانية، مجددا بتفاؤل حذر بشأن الأولى وتمنيات خالصة بالابتعاد عن السقوط فى خانات عدم الاستقرار والعنف فى الثانية. وفى هذا لنراقب المسارات بالغة التنوع للحالتين التونسية والمصرية وللحالات الأخرى فى بلاد العرب التى لا يعنى فى أى منها صبر الشعوب على الحرمان من الحرية التسليم الأبدى أو غير المشروط بذلك.
أستاذ علوم سياسية وباحث فى جامعة ستانفورد