الخروج من مصيدة الديون الخارجية!
محمد يوسف
آخر تحديث:
الجمعة 12 أبريل 2019 - 11:50 م
بتوقيت القاهرة
عندما سُئلت عن تعريف دقيق للاستدانة الخارجية فى الدول النامية، قلت إن هذه الاستدانة تُمثل أحد البدائل التى تلجأ إليها السياسة الاقتصادية لعلاج الاختلالات المزمنة فى اقتصادات هذه الدول؛ غير أنها بديل مؤقت من منظور الاستدامة، وباهظ من منظور التكاليف. ولمزيد من التوضيح، قلت إنه طالما يمكن تعريف الشىء بنقيضه، فإن الاستدانة هى نقيض التنمية. إذ بينما تعنى التنمية أن الاقتصاد يدخر بعضا من قدراته الحاضرة من أجل زيادة هذه القدرات فى المستقبل، فإن الديون تعنى الاقتراض من المستقبل لأجل الحاضر، وبما يشير إلى تحميل هذا المستقبل بأعباء الحاضر ومشاكله.
ونتيجة لتفاقم العجز الداخلى والخارجى الذى تعانى منه الدول النامية، لم يكن أمامها مفر من اللجوء للاستدانة الخارجية، حتى سقط أغلبها أسيرا فى مصيدة الديون الخارجية. وداخل هذه المصيدة، باتت هذه الدول تدور فى حلقة مفرغة من الديون؛ فتراها تبحث عن ديون جديدة حتى تتمكن من سداد أقساط وفوائد الديون القديمة.
***
حتى وقت قريب، كان من الشائع فى الدراسات الاقتصادية ذكر الاقتراض من الخارج ضمن المصادر الرئيسية لتمويل التنمية الاقتصادية فى الدول المتعثرة اقتصاديا. وقد كان اهتمام هذه الدراسات بالديون الخارجية بمثابة انعكاس للأهمية التى احتلتها تلك الديون فى هيكل التمويل الخارجى المتدفق لهذه الدول؛ والذى جعل هذه الديون تتفوق فى مكانتها على مكانة الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، وعلى مكانة المنح والهبات والمساعدات التى أتتها من الخارج خلال تلك الحقبة الزمنية. ففى أعقاب طفرة السيولة الدولية التى نتجت عن الارتفاع الكبير فى أسعار النفط فى سبعينيات القرن الماضى، فيما عرف حينها بظاهرة «البترودولار»، كان من اليسير على أى دولة نامية أن تلجأ للاستدانة من الحكومات والمؤسسات والبنوك الدولية لسد الفجوة القائمة بين صادراتها ووارداتها. وبسبب الشروط الميسرة للإقراض، كان من غير المكلف على الاقتصاد أن يستبدل جهده الوطنى بالديون الخارجية. غير أنه بعد انتهاء «موسم النفط»، وعندما حان وقت الحصاد، لم يعد من الممكن ولا من المتيسر حصول الدول النامية على المزيد من القروض الدولية الرخيصة لتمويل خططها وبرامجها الاقتصادية؛ وفى ذات الوقت، كان عليها أن تسدد فاتورة ما سبق أن حصلت عليه من سوق الديون الدولية. فما كان وفيرا ورخيصا سابقا، بات نادرا ومكلفا حاليا.
وبنضوب مصادر الاقتراض العالمى، وباشتداد الحاجة للاستدانة الخارجية، وقعت دول نامية عديدة فى أزمة خانقة للديون الخارجية؛ وبدأت تظهر اتجاهات فكرية جديدة تحاول البحث فى مسببات ونتائج هذه الأزمة على اقتصادات الدول النامية؛ وخرجت للنور العديد من الدراسات الاقتصادية التى تقارن التكاليف بالعوائد المترتبة على سياسة الاستدانة من الخارج؛ وانتهى أغلبها لحتمية بحث الدول النامية عن طريق بديل لطريق الاستدانة، حيث تبين أن التنمية الاقتصادية لا تقع فى آخر هذا الطريق. وبدون الإسهاب فى عرض الأفكار التى أفرزها حصاد الهشيم لتجربة الاستدانة فى الدول النامية، هل يمكننا الادعاء بأن الدول التى أسرفت فى الاعتماد على الاقتراض الخارجى لسد فجوة مواردها المحلية قد سقطت فى مصيدة الديون الخارجية؟!
فيما اعتقد، فإن الإجابة على سؤالٍ كهذا تتطلب ابتداء توضيح المقصود بمصيدة الديون الخارجية، وتستدعى، بعد ذلك، تحليل الأسباب التى تدفع الدول النامية للوقوع فى هذه المصيدة.
إن ما نقصده بمصيدة الديون الخارجية هو أن يصل الاقتصاد النامى للوضع الذى يصبح فيه مُصدر صافى لرأس المال، وليس مُتلقى له. وبمعنى أكثر وضوحا، وبسبب العجز المزمن فى قطاع التجارة الخارجية (تجارة الصادرات والواردات)، فإن حاجة الاقتصاد النامى للاستدانة الخارجية تكون حتمية، كى يسد بها الفجوة العميقة بين تدفقات النقد الأجنبى الداخل إليه والخارج منه. ووفق هذا المفهوم، فمصيدة الديون الخارجية تشير كذلك إلى معاناة الدول الواقعة فى أسرها من وضع معكوس. فبينما تستدعى مشكلاتها الاقتصادية الناتجة من تعثر خطواتها التنموية، أن يكون العالم الخارجى (وتحديدا العالم المتقدم) مساندا لها فى تمويل برامج التنمية، عبر مساعدتها فى تحقيق فائض إيجابى فى تدفقات رءوس الأموال؛ إذ بها تدفع لهذا العالم أكثر مما يعطيها؛ وبدلا من أن يدعهما، تتحمل هى أعباء وتكاليف دعمه وتقدمه!
وعلى أية حال، وبعد تحديد المقصود بمصيدة الديون الخارجية، دعنا الآن نوضح أهم الأسباب التى تدفع الدول النامية المدينة للوقوع فى هذه المصيدة. وفى تصورنا أن إفراط وإسراف الاقتصاد النامى فى الاستدانة من الخارج، وتجاوزه لحدود طاقته الاستيعابية لهذه الاستدانة (تناولت هذه الحدود بشىء من التفصيل فى مقال سابق فى هذه الزاوية)، ليست سببا فى تحركه صوب مصيدة الديون الخارجية، لكنها نتيجة من نتائج وقوعه فى هذه المصيدة. أما الأسباب التى تفسر الانجذاب لهذه المصيدة الخارجية، فهى معاناة الاقتصاد النامى من عدد من التناقضات الحاكمة لعلاقته بالعالم الخارجى، وبما يُضيق من مساحة المناورة المتاحة له فى سوق الاستدانة الخارجية.
ففى هيكل تجارته الخارجية، يعانى الاقتصاد النامى من تناقض شديد بين الصادرات والواردات، ليس بسبب التباين فى معدل نمو كل منهما فقط، بل فى نوعية وتوجهات هذا النمو. فعلى الرغم من أن الدول النامية تتركز صادراتها فى السلع والخدمات الريعية رخيصة الثمن (المواد الخام والصناعات الخفيفة والخدمات الريعية)، وتستورد سلع وخدمات غالية الثمن (الآلات والمعدات والسلع التكنولوجية الحديثة)؛ فإن التناقض فى تجارتها الخارجية لا يقف عند هذا الحد. فمع مرور الوقت، تتراخى قيمة صادراتها، وترتفع قيمة وارداتها، وتتراجع مكانتها فى التجارة الدولية. ولما كانت حصيلة الصادرات تستخدم فى تغطية تكاليف الواردات، فإن الدول النامية تعانى من عجز مزمن فى محفظة النقد الأجنبى، وبما يقربها ــ شيئا فشيئا ــ من مصيدة الديون الخارجية.
وفيما يتعلق بتوجهات الاقتراض من الخارج، تعانى الدول النامية من تناقض آخر بين تكاليف الاستدانة وبين قدرة اقتصادها على سداد هذه التكاليف. فبسبب الشح الذى أصاب سوق الإقراض العالمى، وبسبب تردى مؤشرات الجدارة الائتمانية فى الاقتصاد النامى، ارتفعت تكاليف الاقتراض الخارجى، ولم تعد الدول النامية تحصل على فترات سماح تمكنها من الاستعداد لسداد الأقساط. وفى ذات الوقت، ارتفع سعر الفائدة على الإقراض، وخصوصا من المؤسسات الخاصة والتجارية؛ نتيجة لقيام تلك المؤسسات بربط معدل الفائدة على القروض التى تمنحها بمؤشرات الجدارة والتصنيف الائتمانى للدولة المقترضة. أى أن الدولة النامية مَثلُها فى ذلك كمثل «المريض المنكوب» الذى كلما اشتد عليه المرض، قلت فرص حصوله على الدواء الذى يساعده على الشفاء!
وهناك تناقض إضافى تعانى منه الدول النامية، ويتسبب فى وقوعها فريسة سهلة لمصيدة الديون الخارجية؛ ألا وهو التناقض بين حاجتها للاقتراض غير المشروط، وبين الشروط التى تُفرض على القروض المتاحة فى سوق الإقراض العالمى. فليس سرا أن موافقة الدول المتقدمة والمؤسسات الدولية على إقراض الدول النامية تكون غالبا موافقة مشروطة بتطبيق برامج لتثبيت مؤشرات أداء الاقتصاد، ولتكييفه بطريقة تضمن زيادة قدرته على خدمة هذه الديون. وفى اعتقادنا أن أكثر ما يقرب اقتصاد الدول النامية من مصيدة الديون الخارجية، هو التزامها بتطبيق سياسات وبرامج اقتصادية لا تلائم طبيعة المشكلات التى تعانى منها، ولا تقلل من ميلها للاستدانة، بل تزيد من حاجتها للتوسع فى الاقتراض الخارجى فى المستقبل.
***
إذا حاولنا الآن تطبيق مكونات التحليل السابق على الوضع الراهن للاقتصاد المصرى، وتساءلنا عن المسافة التى تفصله عن مصيدة الديون الخارجية، فيمكننا أن نخلص لنتيجتين:
ــ الأولى، وبناء على اتجاهات ومؤشرات المديونية المصرية خلال العقود الست المنصرمة، لا يصح أن نعتقد أن الاقتصاد المصرى يُغرد بعيدا عن الدول النامية؛ فهو يعانى مما تعانى منه أغلب هذه الدول. كما أن أدائه الاقتصادى تحكمه نفس التناقضات التى ضيقت ــ ومازالت تضيق ــ سوق الاستدانة الخارجية أمام حاجة الدول النامية للاقتراض.
ــ الثانية، أنه منذ توقيع اتفاقية التسهيل الممدد مع صندوق النقد الدولى فى العام 2016، والاتجاهات العامة للاقتراض تستدعى مزيد من الإجراءات الحكومية لضغط الحاجة للاستدانة الخارجية، وتحتاج لتعديل السياسات الاقتصادية الرامية لتجنيب وقوع الاقتصاد المصرى فى مصيدة الديون الخارجية. فليست المشكلة أن حجم الدين الخارجى قد اقترب من حدود 100 مليار دولار، أو أنه قد تجاوز حدود الطاقة الاستيعابية للاستدانة الخارجية؛ بل لأن السياسات الاقتصادية المصاحبة لهذه الاستدانة مازالت تستهدف علاج مشكلات الحجم لا النوع، وما انفكت تعالج العرض لا المرض.
على أننا نسارع بالقول أن النتيجتين السابقتين لا تعنيان أن الاقتصاد المصرى قد غُلب على أمره، أو أنه لم يعد فى استطاعته الابتعاد عن مصيدة الديون الخارجية، أو أنه واقع فيها لا محالة. فاعتقادنا الجازم أن الاقتصاد المصرى مازالت لديه الفرصة لتجنب الوقوع فى هذه المصيدة، وأنه يحتاج فقط لطرق غير تقليدية للابتعاد عنها.
فالطرق التقليدية للفكاك من هذه المصيدة، تدور حول تشجيع الصادرات، بغض النظر عن نوعيتها؛ وتسعى لتقليل الواردات، بغض النظر عن مدى ضروريتها. أما الطرق غير التقليدية للفكاك، والتى ندعو لها هنا، هى أن تركز سياسات تشجيع الصادرات على السلع الصناعية عالية القيمة المضافة، وعلى الصادرات الخدمية عالية المكون المحلى. وأن تجتهد سياسات تقييد الواردات على تقييد الواردات التى لا تراعى محدودية أرصدة النقد الأجنبى، أو تلك التى لا تضيف للطاقات الإنتاجية المصرية؛ وأن تتحيز هذه السياسات لصالح الواردات التى تزيد من هذه الطاقات، وبما يقضى على أحد التناقضات التى يعانى منها الاقتصاد المصرى فى سوق الاستدانة الخارجية. أما باقى التناقضات، فعلاجها غير التقليدى يكون بإدخال تعديلات جوهرية على خطط وسياسات الاقتراض من الخارج، والامتناع، بكل ما أوتى الاقتصاد من إمكانات، عن الحصول على قروض مشروطة، وخصوصا إذا كانت هذه الشروط تأتى فى ركابها برامج للتثبيت المالى والتكيف الهيكلى. فالخروج من مصيدة الديون الخارجية إذن هو بمثابة الفكاك الأصغر من مشكلات الاقتصاد المصرى، أما الامتناع عن تطبيق هذه البرامج المستوردة يمثل الفكاك الأكبر من هذه المشكلات!
خبير اقتصادى