فى الجائحة فرص للتعلم
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 12 أبريل 2020 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
اخترت عنوان هذا المقال متعمدا التأكيد على أن هناك فرصة للتعلم من هذا الاختبار القاسى الذى تواجهه الإنسانية جمعاء مع انتشار جائحة كوفيد ١٩، وكما أن هناك فرصة للتعلم، فمن المحتمل أيضا ألا يتعلم بعض البشر من هذا الاختبار، ومن ثم تستمر الأوضاع على ما هى عليه، مثلما كانت قبله. وليس معنى ذلك أن الذين لن يتعلموا هم هؤلاء الذين لم يعانوا من هذه الجائحة، بل مما قد يدعو للأسى أن العكس قد يكون صحيحا، فرغم فداحة الآثار على البشر والاقتصاد، سوف يتصور قادة الدول التى لم تهدد الجائحة استقرارهم فى مواقعهم، أنهم قد نجوا، فلا خطأ هناك فى ممارساتهم، ويستسلم مواطنوهم لاستمرار نظمهم باعتبارها قدرا لا فكاك لهم منه.
والواقع أن احتمالات عدم التعلم من هذا الاختبار هى أعلى فى الوطن العربى منها فى خارجه، وأتمنى أن يكون استنتاجى هنا خاطئا، ولكن التجربة التاريخية القريبة تشير إلى أن سجل تعلمنا من إخفاقات بل ونكبات الماضى جد محدود. لا بعد النكبة الكبرى فى ١٩٤٨ ولا بعد ضياع إنجاز حرب أكتوبر والذى انتهى بالانقسامات العربية إلى تتويج إسرائيل القوة التى تسعى جميع النظم العربية لخطب ودها متجاهلة حقوق الفلسطينيين.
ومع ذلك هناك فرصة، أتمنى ألا تضيع، للتعلم من هذا الاختبار القاسى الذى تمثله الجائحة. طبعا سوف تكون هناك إجراءات للتعامل مع الآثار المباشرة لهذه المحنة، ولكن الدروس المهمة هى تلك التى تتعلق بما يجب عمله حتى نتوقى تكرار هذه المحنة أو التقليل من آثارها إذا ما تجددت، أو داهمنا خطر يماثلها، وهو أمر لا ينبغى استبعاده على ضوء التوقعات بأن تتجدد الجائحة فى فصل الخريف، أو أن يتحور فيروس آخر ويفاجئنا فى تحول جديد له فى المستقبل. وقد تناول كثيرون هذه الأمور، ولذلك سأكتفى باستعراض أهمها فى الحالة المصرية. وهى تتعلق بدور الدولة وخصوصا فى مجالات الصحة العامة والبحث العلمى واستعادة النشاط الاقتصادى واستراتيجيات التنمية كما تتصل بعلاقاتها بمواطنيها.
العودة إلى الدولة:
أثبتت تجربة الشهور القليلة الماضية فى الصين وفى الولايات المتحدة وفى كوريا الجنوبية وفى مصر وفى كل الدول التى تسلل لها أن رأس الحربة فى المواجهة الناجحة هو جهاز الدولة بما يتخذه من إجراءات وما يدعو له من تعليمات على المواطنات والمواطنين الالتزام بها مهما كانت قسوتها، كما أنه هو المعول عليه فى التعامل مع التبعات الاقتصادية لهذه المحنة. وفى الحقيقة وعلى عكس الاعتقاد الشائع لا ينفى كل من صندوق النقد الدولى ولا البنك الدولى دور الدولة لا فى مواجهة الكوارث الطبيعية أو الصحية ولا فى استعادة النشاط الاقتصادى بعد الكساد، ولكن أنصار النيوليبرالية المتوحشة قد بالغوا فى الدعوة لاكتفاء الدولة بوظيفتها الحارسة فى توفير الدفاع ضد الاعتداءات الخارجية وصيانة الأمن الداخلى وإتاحة سبل الاحتكام السلمى عند المنازعات من خلال القضاء، وأشادوا بما يمكن للقطاع الخاص أن يقوم به ليس فى مجال الصناعة والزراعة والخدمات التى لا يحتاجها بالضرورة كل المواطنين. ولكن حتى فى توفير السلع العامة التى هى بالضرورة حاجة لكل المواطنين، وفى مقدمتها كل من الصحة والتعليم. السلع الخاصة هى تلك التى يمكن قصر استهلاكها على مجموعة خاصة من المواطنين يحصلون عليها وفقا لشروط الوصول إليها وهى بدفع مقابل، وهى التى يمكن أن يتنافس المنتجون فيها. أما السلع العامة فهى تلك التى لا يمكن قصر استهلاكها على مجموعة خاصة من المواطنين مثل الهواء النقى أو الغابات أو الأنهار أو الطرق العامة والشوارع أو تلك التى لا ينبغى قصر استهلاكها على مجموعة محددة من المواطنين مثل مؤسسات الصحة العامة والمؤسسات التعليمية، كما لا ينبغى أن يتم توفيرها من خلال المنافسة. مصلحة المجتمع تستلزم إتاحة هذه السلع العامة لكل المواطنين وإلا فإنه حتى المواطنون الموسرون سوف يعانون إذا ما اقتصر توفير الرعاية الصحية عليهم، فسوف يأتيهم الخطر من غير الموسرين الذين لا تصل إليهم هذه الخدمات. كما أن أصحاب العمل سوف يستفيدون بكل تأكيد من توافر قوة عمل متعلمة ومدربة. وقد أثبتت تجربة الولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وحتى فرنسا الخطأ الفادح فى التعويل على المستشفيات الخاصة فى علاج ضحايا فيروس كورونا المستجد، إما لعدم كفاية هذه المستشفيات أو عدم كفاية استعداداتها. تفوقت ألمانيا عليهم جميعا لاتساع نظام الرعاية الصحية الحكومية فيها، وكان سبيل بريطانيا فى المواجهة هو نظام الخدمة الصحية البريطانية وهو واحد من ثمرات دولة الرفاهة التى ناضل حزب العمال لإدخالها فى بريطانيا وحافظ عليها حزب المحافظين، وهو أيضا ما سعى باراك أوباما لإدخاله فى الولايات المتحدة وثار عليه دونالد ترامب أشهر نصير للرأسمالية المتوحشة بعد وصوله للسلطة.
مستوى التعليم المتميز لا يقل أهمية فى مواجهة أخطار الأوبئة عن نظام خدمة صحية عامة بمستوى رفيع. المواطن المتعلم أكثر إدراكا لضرورات الوقاية ونوع العلاج الصحيح وأسباب الأمراض التى ليست ــ فى المحل الأول على الأقل ــ عقابا من الذات الإلهية على عبيده الكافرين كما أشاع البعض، كما أن هذا التعليم المتميز هو الذى يتيح للمجتمع الأطباء الماهرين والممرضات والممرضين الأكفاء والعاملين الصحيين ذوى الخبرة. وعلى الرغم من كثرة الحديث عن مشروع لإصلاح التعليم يقوده وزير التعليم الحالى إلا أن هذا المشروع الذى لم يخضع لا لنقاش مجتمعى واسع ولا لتبادل الآراء مع المتخصصين الخبراء، فإنى أخشى أن كل ما أقرأه عنه وما أسمعه من عامة المواطنين لا يدفعنى للاعتقاد بأن ذلك هو سبيلنا حقا لإصلاح التعليم. ومع أننا نعول أيضا على نجاح تجربة المدارس اليابانية، إلا أنى أتساءل لماذا لا نتعلم من تجارب دول كانت أوضاعها تشبهنا فى كثير من النواحى مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة والصين وهى التى نجح نظام تعليمها نجاحا مبهرا فى سنوات قليلة وقفزت إلى المراتب الأولى فيما يحصله طلابها من معرفة بالرياضيات والفيزياء واستخدام اللغة وهى مفاتيح التقدم فى عصر المعرفة، وهى أيضا نواحى نقص التحصيل لدى طلابنا؟.
العلم مرشدا للسياسة العامة
النهوض بالتعليم على جميع مستوياته هو بكل تأكيد المقدمة الضرورية لرفع مستوى البحث العلمى فى بلادنا، وطبعا يقفز إلى الأذهان هنا أن العقبة أمام تقدم البحث العلمى فى مصر هو قلة الإنفاق عليه من جانب الدولة والمؤسسات الكبرى فى القطاع الخاص، على الرغم من المساهمات القيمة لعدد من كبريات الشركات فى مصر فى تمويل الدراسات العليا للمتفوقين من خريجات وخريجى الجامعات ولكن مشكلة البحث العلمى فى مصر فى الحقيقة هى قلة الطلب عليه من جانب الدولة أولا ومن جانب القطاع الخاص ثانيا. الدولة مستغنية عن البحث العلمى لأنها لا تحتاجه فى مشروعاتها القومية التى لم يخرج أى منها من أى مؤسسة علمية فى مصر، لا فى اقتراحها ولا فى تحديد أولويتها وكيفية تنفيذها. والشركات الكبرى فى القطاع الخاص تعتمد على تكنولوجيات مستوردة، وتجد الحلول لمشاكلها لدى من استوردت منهم هذه التكنولوجيات. وكم ابتهجت النفوس عندما عين الرئيس أستاذا جامعيا مرموقا ووزيرا سابقا مستشارا له للشئون الطبية فقد كان ذلك اعترافا بحاجة مؤسسة السلطة على أعلى مستوياتها لمعرفة رأى العلم فيما نواجه من خطب. طبعا ليس من اللازم أن يكون الوزير أو صانع القرار عالما، ولكنه يجب أن يكون مستعدا لسماع رأى العلماء والاستئناس به. كم كان لافتا للنظر أن رئيس الوزراء الفرنسى يجتمع بمجلسه العلمى قبل أن يقرر ما تتخذه حكومته من إجراءات لمواجهة محنة الجائحة التى حلت بها، كما كان داعيا للتأمل أن الذى كان يقف وراء الرئيس ترامب فى مؤتمراته الصحفية كل ليلة ليخبر المواطنين الأمريكيين بجهود إدارته فى سعيها لوقف انتشار الجائحة هو العالم والطبيب أنتونى فوشى خبير الولايات المتحدة الأول فى أمراض الأوبئة، وهو الذى كان يعقب تصريحات الرئيس المتفائلة بما يناقضها مما يراه العلم حول آفاق التعامل مع هذا الوباء. إسرائيل تتفوق على دول العالم قاطبة فى نسبة ما تخصصه من ناتجها القومى للبحث العلمى. ويقولون إن فى كل وزارة فى إسرائيل مستشارا علميا لوزيرها. والنتيجة واضحة فى تفوق إسرائيل العلمى والتكنولوجى والاقتصادى والعسكرى على كل دول الشرق الأوسط. لا أقلل من قيمة الاكتشافات المشجعة فى مجال ابتكار أجهزة للتنفس الصناعى فى جامعتى زويل والمنصورة. ولكن أمامنا طريقا طويلا قبل أن يصبح العلم مرشدا للسياسات العامة فى مجال مكافحة الأوبئة وكافة المجالات الأخرى.
استراتيجيات التنمية
لو استرشدنا بالعلم فى وضع استراتيجيات التنمية، ومع التحديد الصحيح لأدوار الدولة، وخصوصا القطاعين المدنيين العام والخاص، واللذين لا يمكن، بل من المستحيل، أن تكون هناك أى تنمية تستحق هذه التسمية بدونهما، فلاشك أن استراتيجيات التنمية الهادفة إلى الاستعداد لمواجهة مثل هذه الكوارث الصحية أو الطبيعية أو أزمات الكساد الاقتصادى، وما يصاحب هذه الأزمات من إخفاق الاقتصاد المعولم عن الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين، تبرز إلى الصدارة قطاعين من حيث ضرورتهما فى توخى آثار مثل هذه الأزمات؛ أولهما قطاع إنتاج الدواء وثانيهما قطاع الإنتاج الزراعى الغذائى. أهمية الأول واضحة من أنه يمكن أن يعين فى توفير الدواء اللازم، وبالاستعانة بالبحث العلمى يمكن أن يساهم فى ابتكار أدوية جديدة لعلاج تحديات غير مسبوقة قد تأتى من أمراض أو أوبئة أسبابها ليست معروفة. وثانيهما يمكن أن يعوض عن نقص واردات الغذاء مع احتمال انقطاعها نتيجة قيود وتكلفة النقل التى تستلزمها هذه الظروف. لمصر فى الخمسينيات والستينيات تجربة كانت رائدة فى التصنيع المحلى للدواء، وتخلينا عنها فى السبعينيات لينتهى الأمر بأننا أصبحنا نستعين بالواردات لتغطية ثلثى حاجاتنا من الدواء. وقد يكون الدفع فى اتجاه تحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الذاتى فى إنتاج الحبوب مخالفا لما قد تقضى به اعتبارات الرشادة الاقتصادية فى تخصيص الموارد، ولكن توفير الغذاء محليا هو حاجة استراتيجية تجب اعتبارات الرشادة الاقتصادية، ولنا فى المملكة العربية السعودية نموذج يحتذى على الرغم من تفاوت القدرات المالية للبلدين.
لا تسمح المساحة الضيقة لهذا المقال أن أتناول درسين آخرين توحى بهما الجائحة وهما واجبان على الدولة أمام المواطنين، وهما أولا توفير نظام فعال للحماية الاجتماعية، وخصوصا لغير كاسبى الأجور فى الزراعة والقطاع غير الرسمى الذى لا يتمتع بقوة عمل، ثانيهما ألا تكون عقبة أمام تمتع جميع المواطنين بحقوقهم الأساسية فى الحرية الشخصية والتعبير والتنظيم، وأن يقوم نظامها السياسى على أساس من رضائهم الحر. وقد أعود إلى هذين الموضوعين لاحقا.