فاصل ونعود..!
وحيد حامد
آخر تحديث:
الثلاثاء 12 مايو 2009 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
كثرت القنوات الفضائية..!
وكثرت البرامج وتعددت، وكلها متشابهات فى التفاهة والسطحية والتكرار الممل والسخيف، ما تراه على هذه الشاشة هو نفس ما تراه على الشاشة الأخرى مع تغيير طفيف جدا هو شخص مقدم البرامج أو مقدمته، والمنافسة ساخنة وشرسة، من يسبق من..؟!
الجرائم اليومية وبالأخص الأكثر عنفا وبشاعة انتقلت من صفحات الجرائد إلى الشاشات لتزيد من هلع الناس، والمصائب بكل أنواعها أصبحت هى المادة المطلوبة والمحببة لكل برامج «التوك شو»..
وكل مصيبة ولها ناسها من المحللين والخبراء، وما أكثر خبراء المصائب فى هذا البلد.. كانت هذه البرامج تناقش قضايا جادة بالفعل تثرى الحياة السياسية والاجتماعية وبنبرة عالية وصارخة أحيانا، ولكن من الواضح أنه حدثت حالة تراجع وانكسار وفتور ربما بسبب عين حمراء أطلقت شرارا.. أو تمردا من الهواء وتهديدا بقطع الإرسال..
بالإضافة إلى الآفة التى أصابت أصحاب هذه البرامج وهى آفة الثرثرة وشهوة الكلام، خصوصا عندما يكون الموضوع الخاضع للنقاش تافها ولا يستحق أى عناء فتجد مقدم البرنامج يكد ويكدح ويغالى فى الانفعال والحماس وهو لا يدرى.. أو لعله يدرى أن «الضرب فى الميت حرام» وأن المشاهد ما هو إلا مواطن غلبان فى عيشته وليس فى عقله..
كذلك الجنس اللطيف فى هذه البرامج، الواحدة منهن تصل بها درجة الانفعال والحدة فى الجدل فيكون صراخها أعلى من صراخها أثناء لحظات الحمل أو الولادة.. حتى باتت كل الأمور فى حياتنا فجة وممجوجة.. وحياتنا على شاشة هذه البرامج الحوارية مصائب متنوعة، وأنا لا أنفى وجود المصائب بل أنا ضد استثمارها والمتاجرة بها لمجرد إيجاد موضوع للحلقة..
ثم نأتى إلى الفصل.. فاصل ونعود.. أو نلتقى بعد الفاصل.. فيكون الفاصل فى هذه البرامج تحديدا كئيبا ومقبضا وخانقا، حيث تبدأ الإعلانات الثابتة التى لا تتغير ولا تتجدد ولا تتبدل رغم سخافتها فهناك السيارة التى ماتت.. ماتت.. ماتت وجنازتها المهيبة.. وهذا الرجل يصرخ فى إعلان آخر عن ذات السيارة فيوقظ الأطفال من نومهم وهم فى حالة فزع وهلع.. ثم تأتى الممثلة الحسناء وتصرخ وتشخط بعنف قائلة: بالنسبة للكفتة.. مالها الكفتة؟ الله أعلم..
وفى نوع آخر من الإعلانات يطل علينا فضيلة مفتى الديار بوقاره المعهود معددا لنا أوجه الفقر العديدة وتتوالى صور الفقر والبؤس والعوز التى تدمى القلوب، وطبعا أنا لا أعرف فى الدين الإسلامى كما يعرف فضيلة مفتى الديار..
وعليه يجب أن أسأل فضيلته: إذا كانت كل النماذج التى ظهرت فى الإعلان هى لأشخاص حقيقيين وعلى هذه الحالة من الفقر والعوز، نكون قد ظلمناهم أكثر من ظلم الفقر لهم بهذا الاستغلال المهين لكبريائهم وعفافهم وكرامتهم، ففى الحديث الشريف «إن الله يحب عبده المؤمن الفقير المتعفف أبا العيال»، ويقول المولى عز وعجز «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف»..
وهذا الإعلان يهدر كرامة الفقراء ويدمر عفافهم.. أما إذا كانت المرأة التى تقول «جوزى طلقنى» ممثلة هى ومن معها فأنا أسأل فضيلة المفتى مرة ثانية: أليس هذا تصويرا للفقراء على غير ما يرضاه الله لهم؟ ولا أحب أن أسوق المزيد من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التى تؤكد الحرص على كرامة الفقراء فى الدين الإسلامى.. وهذا لا يتنافى أبدا مع الدعوة إلى الخير بكل أشكاله ولكن بصورة غير متعارضة مع قيم الإسلام وأخلاقه.
نفس الشىء يحدث وبصورة أكثر قسوة عندما نرى الأطفال من مرضى مستشفى «57357» فى سلسلة إعلانات يتصدرها المشاهير من نجوم الفن والرياضة والإعلام وإلى جوارهم طفل مسكين أنهكه المرض فى حوار مصطنع ومشاعر كاذبة وكلمات معادة ومكررة وجافة وخالية من عواطف حقيقية فيصبح الإعلان عن الضيف الذى حضر للمجاملة وليس عن مأساة المريض الذى يستحق الشفقة وكأن المرض لا يكفيه فأصبح مادة إعلانية لجمع التبرعات بالمخالفة لكل حقوق الإنسان مع قهر الطفولة، نعلم جميعا أن الغرض ربما يكون مشروعا ولكن الوسيلة غير مشروعة بالمرة ومرفوضة إنسانيا، وإذا كان هناك من الآباء والأمهات من يوافق على ظهور أولادهم المرضى فى مثل هذه الإعلانات فالسبب معروف.. تحت ضغط الحاجة إلى العلاج.. وسؤالى الثالث إلى فضيلة مفتى الديار: ما رأيك يا سيدى فى مسألة احتكار الصدقة؟!
أن تأتى مؤسسة خيرية قوية وثرية وتملك المال للإعلان عن نفسها فيكون لها النصيب الأكبر دون غيرها من جهات الخير العديدة فتحدث وفرة هنا وجفاف هناك بينما الأصل فى عمل الخير الإحساس الحقيقى بحاجة الآخرين، خاصة الأفراد..
ويا سيدى أنت مفتى الديار.. مفتى كل الناس فى بر مصر وتطلب الخير لهم جميعا، لماذا تنحاز إلى مؤسسة دون أخرى وأنت الرمز الدينى الذى يقتدى به الناس؟.. حتى فعل الخير يا سيدى يخضع للعدل والإنصاف.. وعليه يا سيدى احتكار الصدقة يحول دون وصولها إلى الذين ذكرهم الله فى كتابه الكريم «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف»، هؤلاء لن يقبلوا صدقة من جمعية تطلب منهم إيصالا وتوقيعا.. ولن يذهبوا إليها حتى لو ماتوا جوعا.. لأنهم يعرفون أن أهل البر والتقوى الذين لا تعرف شمالهم ما أعطت يمينهم هم الأقرب إليهم والأسرع فى نجدتهم.. وبدون إعلانات.. وفاصل.. ونعود!.