الحرب بالوكالة

إيهاب وهبة
إيهاب وهبة

آخر تحديث: الجمعة 12 يونيو 2009 - 7:02 م بتوقيت القاهرة

 لم تشكل التصريحات التى أدلى بها الجنرال جورج كيسى، رئيس هيئة أركان حرب الجيش الأمريكى، يوم 26 مايو مفاجأة كبيرة بالنسبة لى، وهى التصريحات التى قال فيها إن البنتاجون على استعداد للاحتفاظ بقوة مقاتلة فى العراق لعشرة أعوام إضافية بعد الموعد المتفق عليه فى السابق وهو نهاية عام 2011.

علل كيسى هذا التحول فى الموقف الأمريكى بالأخطار المحدقة بالعالم المعاصر والتى أصبح من الصعب التنبؤ بها مسبقا. ومبعث عدم دهشتى لهذه التصريحات هو اعتقادى بأن الولايات المتحدة دأبت باستمرار على تكرار أخطائها وعدم الاستفادة من دروس الماضى.

وفى مقال متميز نشره بنيت رامبرج Bennett Ramberg الباحث فى السياسة الخارجية بمجلة الشئون الخارجية الأمريكية (عدد مارس/أبريل 2009)، أوضح أن هذه الأخطاء ترتكبها أمريكا بوتيرة ثابتة تقريبا أى مرة كل عشر سنوات.

فبعد هزائم لحقت بقواتها على امتداد ثلاثة عقود، اضطرت فى السبعينيات إلى الانسحاب من فيتنام وكمبوديا، وفى الثمانينيات إلى الانسحاب من لبنان، وفى التسعينيات إلى الانسحاب من الصومال.

وفى رأيه أن هذه الانسحابات تلتها فترات من الصراعات وعدم الاستقرار، إلا أن المصالح الأمريكية لم تضر فى هذه المناطق، ولم تستطع دول الجوار، التى حاولت ملء الفراغ، الصمود طويلا أمام التحديات الجسام التى واجهتها فى هذه الميادين الجديدة.

ويخلص الباحث إلى أن على الولايات المتحدة أن تتنازل عن «مكابرتها» وتنسحب من العراق عاجلا وليس آجلا، وأن تلجأ إلى إتباع الأساليب الدبلوماسية والقوة الناعمة لتحقيق الأهداف التى تسعى إليها أو أن تلجأ إلى دعم الحرب بالوكالة supporting proxies، وهو الأسلوب التى أثبتت فاعليته فى مناسبات سابقة منها أفغانستان، عندما دعمت الولايات المتحدة المجاهدين ضد القوات السوفيتية الغازية، والتأييد الأمريكى المستتر للتدخل الأثيوبى فى الصومال ضد قوات المحاكم الإسلامية، وقبل ذلك إحلال قوات فيتنام الجنوبية محل القوات الأمريكية تدريجيا أو ما عرف بالفيتنمة vietnamization.

والملاحظ أن الولايات المتحدة مازالت تتخبط فى سياستها فى كل من أفغانستان والعراق، وهى المناطق التى يستمر تورط القوات الأمريكية فيها إلى الآن. فبالنسبة لأفغانستان تتبع السياسة الأمريكية خطا متعرجا.

فمنذ أشهر قليلة تحدث الرئيس الأمريكى أوباما عن «أهمية وجود إستراتيجية للانسحاب من أفغانستان»، وكثر الحديث عن اتصالات تجرى بين الحكومة الأفغانية وبعض عناصر طالبان، ثم ما لبث أن أعلن أوباما عن إرسال قوات إضافية إلى أفغانستان، وينتظر أن يصل حجم هذه القوات فى نهاية العام الحالى إلى 68 ألف جندى.

وبالتوازى مع ذلك قامت أمريكا بتوسيع نطاق عملياتها الدائرة فى أفغانستان لتشمل المناطق الحدودية داخل باكستان عن طريق قصفها بالطائرات الموجهة، ثم بدفع الحكومة الباكستانية دفعا إلى شن هجمات برية وجوية واسعة ضد معاقل طالبان فى وادى سوت وفى وزيرستان. وأدت هذه الهجمات التى تقوم بها الحكومة الباكستانية إلى تدمير مدن بالكامل فى هذه المناطق ونزوح ما يزيد على مليونى باكستانى إلى خارجها.

وفقا لمقولة «يكاد المريب أن يقول خذونى» أكد الجنرال دافيد بترايوس قائد القيادة المركزية الأمريكية للصحيفة راغدة درهام التى نشرت تصريحه فى صحيفة الحياة فى أول يونيو، أن باكستان لا تخوض حربا نيابة عن أمريكا إنما تقاتل فى وجه تهديد يعرض الحكومة الباكستانية نفسها للأخطار.

لا تنطلى هذه التأكيدات على أحد، إذا علمنا أن باكستان قد تلقت ما يقرب من 11 بليون دولار مساعدات من أمريكا فى الفترة من 2001 حتى 2008 فى مقابل دعمها للعمليات الأمريكية فى مكافحة الإرهاب ولتمويل جزء من النفقات التى تتحملها الحكومة الباكستانية فى حربها ضد طالبان فى وادى سوات وفى وزيرستان.

بالإضافة إلى معونة إضافية قدرها 3 بلايين دولار قدمتها لها إدارة بوش السابقة على امتداد خمس سنوات. وفى العام الحالى تعهد أوباما باستمرار دعم باكستان بتقديم معونة اقتصادية قدرها 1.5 بليون دولار سنويا ولمدة خمس سنوات من أجل تمكين الحكومة الباكستانية من أن تظل شريكا قويا فى القضاء على طالبان وتنظيم القاعدة، وبالإضافة إلى ذلك وعد أوباما بأن يقترح على الكونجرس تقديم معونة إضافية قدرها 2.8 بليون دولار لدعم الجيش الباكستانى.

ما يدور الآن فى باكستان هو مثال كلاسيكى للحرب بالوكالة. وللأسف، فإن ذلك يتم مقابل ثمن بخس إذا ما قورن بالخسائر فى الأرواح، وبمدى الدمار والخراب الذى يحل بالبلاد، وبالمعاناة التى يتعرض لها الملايين من شعب باكستان. والحديث الآن يجرى حول احتمالات «البلقنة» Balkanization لباكستان وذلك نسبة إلى ما جرى فى شبه جزيرة البلقان من تفتتها إلى كيانات متناحرة بعد الحرب العالمية الأولى.


ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لما يجرى فى العراق. فالقوات الأمريكية تنسحب من المدن إلى قواعد عسكرية وتسلم المسئولية إلى القوات العراقية التى تواجه فى واقع الأمر الهجمات والتفجيرات بصفة يومية.

وخرجت علينا أمريكا وأعوانها بما أطلق عليه بقوات الصحوة التى تتولى أمريكا دفع رواتبها وتدريبها. ولكن ما لبث أن اكتشفت مدى تغلغل قوات المقاومة داخل فرق الصحوة هذه!

وإذا كانت الولايات المتحدة قد أسندت مهمة تولى الحروب فى الماضى إلى مجاهدى أفغانستان أو على الأقل تلاقت المصالح حول ضرورة إلحاق الهزيمة بالقوات السوفيتية، أو إلى إثيوبيا فى الصومال، وإذا كان هناك ما يشير إلا أن أمريكا ستعتمد مستقبلا على إيران كى تلعب دورا متعاظما فى أفغانستان بحكم الجوار والعلاقات الاقتصادية المتقدمة بين البلدين، وبسبب عداوة إيران المتأصلة والثأرية ضد طالبان.

فإنه من غير المتصور إمكانية اعتماد الولايات المتحدة على أى دولة من دول الجوار العراقى لكى تتولى حربها بالوكالة فى العراق إذا ما انسحبت منها. فلا يمكن للولايات المتحدة أن تسند هذه المهمة إلى إيران بأجندتها المعروفة، ولا إلى سوريا بارتباطاتها بعناصر إقليمية لا ترضى عنها الولايات المتحدة، ولا إلى تركيا بعدواتها لبعض الفرق المقاتلة الكردية. كما أن الأردن غير مؤهل لمواجهة مثل هذه المخاطر.

لذلك فإننا نلحظ هذا التخبط من الموقف الأمريكى الحالى بالنسبة للعراق، ففى حين يطالب العقلاء بالانسحاب فى أسرع وقت ممكن إنقاذا لما يمكن إنقاذه، نجد أن البعض الآخر يطيب له التحدث عن وجود أمريكى يمتد إلى عشر سنوات مقبلة أو ما يزيد.. خياران 
كلاهما مُرّ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved