مستقبل العراق الذى كنا نعرفه
إيهاب وهبة
آخر تحديث:
السبت 12 يونيو 2010 - 10:59 ص
بتوقيت القاهرة
بداية واعدة اقترنت بالاتفاق على إنشاء مجلس التعاون العربى فى فبراير 1989، الذى ضم العراق ومصر والأردن واليمن. خلال ما لا يزيد على عشرين شهرا هى كل عمر المجلس، عُقدت العشرات من الاجتماعات فيما بين هذه الدول، سواء على مستوى القمة أو المستوى الوزارى، بالإضافة إلى العديد من اجتماعات لجان العمل المتخصصة. كانت أهداف المجلس، بعد أن نجحت مصر فى تنقيتها من أية شائبة قد توحى برغبة الدول الأعضاء فى إقامة تحالف أو تشكيل محور سياسى أو عسكرى أو أمنى، تركز على التعاون التجارى، وزيادة حجم التجارة، والتنسيق الصناعى، وإقامة المشروعات المشتركة، وإزالة العقبات أمام انتقال الأيدى العاملة، وحركة رءوس الأموال، بالإضافة إلى تعزيز الروابط الثقافية والفنية.
فجأة وقع المحظور، سقط العراق فى هاوية سحيقة لم يستطع الخلاص منها حتى الآن حيث أقدم يوم 2 أغسطس 1990 على تحريك قواته، واحتلال دولة الكويت وانقلب الحال بين يوم وليلة، ووقفت مصر إلى جانب الحق وما تنادى به مبادئ ميثاق جامعة الدول العربية، وما يقرره ميثاق الأمم المتحدة، وأدانت العمل العراقى بشدة وطالبته بالرجوع عنه. ولما فشل العالم فى إقناع صدام حسين بالتراجع، شاركت مصر فى التحالف الدولى الذى تمكن من تحرير الكويت. توقفت بالطبع أعمال مجلس التعاون منذ أن وقع الغزو، وأصبح المجلس نسيا منسيا.
لسنا فى مجال البحث عن الأسباب التى دفعت العراق إلى الوقوع فى هذه السقطة المروعة والتى دفع ثمنها غاليا، ولايزال يدفعه حتى هذه اللحظة. إنما المؤكد أن العراق الذى كان مثالا يحتذى للتنمية الاقتصادية الناجحة، قد تغير وضعه تماما منذ ذلك التاريخ المشئوم. تم تحطيم قدراته العسكرية، وخضع للحصار والعقوبات، وتوقفت مسيرة التنمية فيه، وعانى الشعب من نقص الإمدادات وتقلص الإمكانيات.
ثم جاء الغزو الأمريكى المسلح للعراق عام 2003، ليجهز على ما تبقى من بنيته التحتية ومرافقه الحيوية، وليطلق العنان لكل النعرات الطائفية والمذهبية البغيضة، ووسط أصوات القنابل وحطام التفجيرات، والاغتيالات الممنهجة أو العشوائية، لا نكاد نتعرف الآن على العراق الذى ألفناه وتعاونا معه فى السابق. كاد كل مصرى فى مختلف القرى والنجوع قد وجد نفسه على صلة بشكل مباشر أو غير مباشر بذلك البلد الشقيق.
وصل عدد المصريين فى العراق قبل الغزو إلى ما يقرب من المليون ونصف المليون. هؤلاء، فى الوقت الذى ساهموا بعملهم فى كل مشاريع التنمية، زراعية كانت أم صناعية أو إعمارية، استطاعوا أن يساعدوا أهلهم بمدخراتهم التى حصلوا عليها بعملهم وكدهم.
وفى بحث أخير صدر يوم 6 مايو الماضى عن «المركز الأمريكى للتقدم» قدر عدد المدنيين العراقيين الذين قتلوا منذ الغزو الأمريكى بما لا يقل عن 105 آلاف شخص، وعدد قوات الأمن العرقية التى لاقت نفس المصير بما لا يزيد على عشرة آلاف. أما عدد الذين شردوا من مدنهم وقراهم فى داخل العراق فقد وصل إلى 2.8 مليون شخص، وعدد من هاجر منهم إلى الخارج وصل إلى 1.8 مليون. خسر العراق الآلاف من علمائه وأساتذته ومهنييه، إما بتصفيات جسدية متعمدة أو بدفع هؤلاء إلى مغادرة البلاد.
تعرض الموروث الثقافى العراقى لأكبر عملية سطو فى التاريخ. أما عن النتائج الاستراتيجية فيقول التقرير أن الولايات المتحدة قد فقدت الكثير من سمعتها ومن رصيدها الأخلاقى من جراء ما تم ارتكابه من فظائع فى العراق، أما إيران فكانت هى المستفيد الأكبر من القضاء على النظام العراقى، وأصبح العراق مرتعا خصبا للمتطرفين والمتشددين، وانفجرت العداوات الطائفية بكل آثارها فى الداخل والخارج.
تعلقت أمال العراقيين بالانتخابات التى جرت يوم 7 مارس الماضى، وأقبل على المشاركة فيها بنسبة كبيرة، كما لم يقاطعها السنة كما فعلوا فى الانتخابات التى جرت فى عام 2005، وتطلع شعب العراق إلى حكومة غير طائفية تفتح الطريق أمام استقرار طال انتظاره، خصوصا مع بدء العد التنازلى لانسحاب القوات الغازية. وبالفعل فازت القائمة العراقية التى تبنت شعارا وطنيا وقوميا، وابتعدت فى تشكليها عن أى توجه طائفى، وحصلت القائمة على 91 مقعدا من إجمالى المقاعد فى المجلس النيابى التى تبلغ 325 معقدا.
عنت هذه النتيجة فى الواقع رفض للطائفية، وهو أمر محمود ولا شك. وكان من المفترض أن يتم تكليف رئيس هذه القائمة إياد علاوى، وهو علمانى بخلفية شيعية ويحظى بدعم السنة، بتشكيل الوزارة من قائمته بالتعاون مع قائمة أو أكثر من القوائم التى فازت فى الانتخابات. غير أن رئيس الوزراء المنتهية ولايته نورى المالكى وهو شيعى ويرأس تحالف دولة القانون الذى جاء فى المرتبة الثانية بحصوله على 89 مقعدا وضع العديد من العقبات أمام علاوى كى لا يتمكن من وضع تشكيل الوزارة الجديدة.
أولى هذه العقبات جاءت عن طريق الطعن فى نتائج الانتخابات والإصرار على إعادة الفرز يدويا لأصوات الناخبين فى بغداد. جاءت النتيجة مخيبة لآمال المالكى حيث لم يغير إعادة الفرز من النتائج السابقة. ثم لجأ المالكى إلى وسيلة أخرى لحرمان علاوى من عدد من المقاعد التى حصلت عليها قائمته وذلك عن طريق استبعاد من تتهمهم لجنة المساءلة والعدالة بالانخراط السابق فى حزب البعث.
غير أن هذه المحاولة باءت أيضا بالفشل حيث قضت محكمة الاستئناف بعدم قانونية سحب العضوية ممن تم انتخابهم بالفعل لعضوية المجلس. أما المحاولة الثالثة فكانت تشكيل جبهة تضم قائمة المالكى (دولة القانون) مع التحالف الوطنى العراقى الذى يترأسه عمار الحكيم وهو تحالف شيعى له علاقات قوية بإيران ويضم التيار الصدرى الذى يتزعمه مقتضى الصدر المقيم فى قم منذ ثلاثة سنوات. مع هذا تفتقر هذه الجبهة إلى أربعة مقاعد كى يمكنها تشكيل الحكومة الجديدة.
مر على إجراء الانتخابات العراقية أكثر من ثلاثة أشهر، واعتمدت المحكمة العليا نتائج هذه الانتخابات دون تغيير، وبناء على ذلك سيعقد البرلمان بتشكيله الجديد جلسته الأولى بعد غد الاثنين 14 يونيو. مع ذلك تشير مختلف التقديرات إلى أنه لن يكون فى الإمكان، وسط هذا الشد والجذب بين التحالفات، تشكيل الحكومة قبل شهر سبتمبر المقبل. يعنى هذا أن العراق سيعانى من عدم الاستقرار لعدة أشهر مقبلة.
من ناحية أخرى يعنى هذا التأخير إرباكا فى المخططات الأمريكية للانسحاب التدريجى للقوات من العراق من ناحية، وعملية التفاوض مع الحكومة الجديدة على إقامة علاقة شراكة استراتيجية لفترة ممتدة مقبلة من ناحية أخرى، حيث من المفترض أن يتم خفض القوات الأمريكية إلى 50 ألف جندى مع نهاية شهر أغسطس من العام الحالى، وأن يتم سحب القوات الأمريكية بالكامل مع نهاية عام 2011.
أعود للمخططات الأمريكية لإقامة علاقات استراتيجية طويلة الأمد مع العراق بعد الانسحاب. ساذج ذلك الذى تصور أن الولايات المتحدة ستعود من العراق بخفى حنين بعد أن تكبدت من الخسائر البشرية ما يقرب من 37 ألف جندى بين قتيل وجريح ومعاق، ومن الخسائر المادية ما يزيد عن التريليون دولار.
هناك من البترول العراقى ما يسيل اللعاب (فى تصريح أخير للسفير الأمريكى فى بغداد ذكر أن العراق سيتمكن من إنتاج ما يقرب من عشرة ملايين برميل يوميا بعد أن توصل إلى اتفاقات مع 12 شركة بترولية)، وهناك أيضا موقع العراق الاستراتيجى على حدود إيران، وهناك المصالح الأمريكية فى دول الخليج.
جاءت عملية التسويق لهذه الشراكة الاستراتيجية الجديدة بين الولايات المتحدة والعراق من خلال تقرير أصدره مؤخرا مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ويتحدث عن استمرار قصور إمكانيات القوات العراقية سواء تعلق ذلك بالتدريب أو الإدارة أو التسليح، وبالتالى الحاجة الماسة لاستمرار الدعم والعون الأمريكى للتصدى للضغوط الإيرانية والسورية، وذلك عن طريق الاتفاق على برامج للتدريب العسكرى وتقديم المشورة للجيش والبوليس للأعوام الخمس المقبلة.
ويؤكد التقرير أنه بدون وجود المستشارين العسكريين الأمريكيين والسير فى عمليات التدريب وبرامج التسليح للقوات العراقية «فإن ميزان القوى سيكون فى صالح إيران، وستزداد المخاطر على دول الخليج، وعلى إسرائيل، وعلى صادرات البترول من الخليج بما يؤثر على الاقتصاد الأمريكى والدولى». من ناحية أخرى يطالب تقرير آخر صادر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى أوباما بأن يتحلى بالمرونة اللازمة عند تنفيذ جدول الانسحاب من العراق ويدعو إلى وجود قوات أمريكية (ما بين عشر وخمسة عشر ألف جندى) فى منطقة عازلة تقام بين كردستان وبقية العراق، نظرا لوجود مخاطر حقيقية لنشوب قتال بين الجانبين بعد انسحاب القوات الأمريكية بسبب الموضوعات المختلف عليها وأهمها وضع كركوك، بالإضافة إلى أن حصول العراق على طائرات أمريكية من طراز F-16 والدبابات من طراز M-1 يمكن أن يشكل تهديدا لكردستان العراق.
ليست أمريكا هى الدولة الوحيدة التى تريد الاحتفاظ بنفوذها فى العراق لأطول مدة ممكنة، فهناك إيران التى لا ينكر أحد أن أمريكا قد قدمت لها العراق على طبق من فضة بالقضاء على نظام صدام، صحيح أن نتائج الانتخابات الأخيرة قد جاءت مخيبة للآمال الإيرانية بفوز الكتلة القومية غير الطائفية بأكبر المقاعد (الكتلة العراقية برئاسة علاوى)، وبعدم حصول الائتلاف الوطنى العراقى الذى يضم الأحزاب الشيعية الرئيسية على أكثر من 68 مقعدا، إلا أنه كان من الملاحظ أن جميع الكتل الفائزة فى الانتخابات سارعت بتنظيم «قوافل الحج» إلى إيران فى طلب مباركتها ودعمها.
ولعل السيناريو الأكثر قتامة بالنسبة للفترة المقبلة يتمثل فى حرمان جبهة علاوى القومية من ثمار النصر، والالتفاف على ذلك باقامة جبهة شيعية (من دولة القانون والائتلاف الوطنى)، والتعاون مع التحالف الكردستانى من أجل تشكيل حكومة، لن تمثل بحكم هذا التكوين، كل مكونات الشعب العراقى. يعنى هذا تهميشا للسنة، وترسيخا للطائفية وشحوبا للوجه القومى للعراق.
مثل هذا السيناريو سيكون بمثابة «الوصفة السحرية» لعراق غير آمن أو مستقر لأمد طويل فى المستقبل.