مثل شعبى أم مبدأ سياسى

صلاح ابو الفضل
صلاح ابو الفضل

آخر تحديث: الأحد 12 يونيو 2016 - 10:55 ص بتوقيت القاهرة

من جاور السعيد يسعد، هكذا يقول المثل الشعبى ولكن الحقيقة قد تكون عكس ذلك تماما، معقدة هى العلاقة بين الأمثال الشعبية فى مجتمعنا وأنماط السلوك التى تسود فيه، وبقدر ما يعبر المثل الشعبى بدقة وصدق عن سلوك اجتماعى معين بقدر ما يصبح مصدرا من مصادر هذا السلوك، ويصير مع الزمن جزءا من البناء المعرفى للجماعة. والمثل المشار إليه هنا يأتى من فكرة بسيطة لها روافدها فى مجتمع ينتشر فيه الفقر والحاجة وتحكمه قيم دينية تعلى من قيمة التكافل الاجتماعى لكنها تحولت بالتدريج إلى سلوكيات مرادفة للإحسان والتصدق. من هنا نشأت فكرة أن السعيد، أى الشخص الغنى الذى يرفل فى النعيم يكون لديه ما يفيض عن حاجته، ولفرط النعمة يكون لديه أعمال وأشغال يحتاج فيها لمن يعاونه أو يعمل عنده، ولهذا فإن من يسكن بجوار هذا الغنى أو يتقرب إليه سوف يتمكن إما من العمل لديه أو التكسب من ورائه أو إذا لم يكن قادرا على العمل فلعله يصيب بعضا مما يفيض عن حاجة ذلك السعيد مما يتصدق به. وفى البحار يلتصق السمك الصغير بالحوت الكبير فيعيش على فتات الطعام الذى يتناثر مما يلتهمه الحوت دون أن يسعى ذلك السمك الصغير بحثا عن الطعام وإن ظل تحت رحمة الحوت.

إلى هنا والمثل مفهوم وأثره فى سلوكيات الفقراء فى المجتمع يفسر لجوءهم للاقتراب من الأغنياء كما يفسر زيادة النزوح من القرية إلى المدينة وهكذا. لكن الغريب والمؤلم أن هذا المثل يبدو أنه كان بشكل ما وراء الرؤية التى حكمت السياسات الاقتصادية فى مصر على مدى الأربعين عاما الماضية منذ بدأت سياسات الانفتاح الاقتصادى وبيع القطاع العام إلى السعى الحثيث لتشجيع الاستثمار بأى ثمن وبأفضل الشروط للمستثمر على أمل أنه كلما زادت ثروات البعض تمكنوا من تشغيل الكثيرين وفتح البيوت، وكلما تناثر من حولهم فتات يقتات به الفقراء المتجمعون. وهكذا تصور السادات ومن بعده مبارك أن المعادلة سهلة وأن كل ما كان مطلوبا هو السعى لتشجيع المستثمرين وأن ذلك كان سيؤدى بالتربح المتزايد إلى رشح بعض من الثروات التى يجنيها المستثمرون إلى بقية الشعب العطشان المتجمع من حولهم وعند أقدامهم. لكن السنين مرت أربعين وزيادة، تقاطر فيها المستثمرون على البلاد يستثمرون أموالهم دون أن يدفعوا ضرائب ودون أن ينعشوا الاقتصاد. وامتلأت خزائن المستثمرين فى الداخل ونزح مستثمرو الخارج ومازالوا ينزحون من خيرات هذا البلد المسكين بينما ازداد الفقراء فقرا ولم يرشح لهم غير الماء العكر فى الصنابير وطفح المجارى من أنابيب الصرف.

●●●

ولقد تسربت هذه النظرة البدائية شيئا فشيئا إلى جوهر السياسة العامة للدولة فآمن صناع القرار بأن أفضل ما يمكنهم عمله هو أن تلتصق مصر بأشقائها العرب الأغنياء حتى يرشح لها ما يتيسر من الثروات التى تفجرت بينهم من باطن الأرض وزادتها نتائج حرب أكتوبر. سيطر مبدأ جوار السعيد على سياسة الدولة فاستنامت إلى الاعتماد على القروض والمعونات والهبات وتطوع الدول وازداد المتربحون طمعا واستغلالا للمال المتدفق. توقفت أفكار التطور والإستثمار فى الإنسان وتراجع الابتكار والابداع فى كل مناحى الحياة فاضمحلت الثقافة والفنون وانخفض مستوى التعليم إلى أدنى المستويات وتراجع التخطيط وصارت العشوائية عنوان حقبة بأسرها فى حياة مصر. ولا عجب، فعندما يعتمد الانسان على فيض السماء فإنه يتباطأ تلقائيا عن السعى وراء الرزق وخلق الفرص. وهكذا انهمك طلاب الثروة الانتهازيون فى جمع المال من أقصر الطرق دون ابداع أو اجتهاد، وجد كثيرون ضالتهم فى أراضى الدولة المترامية الأطراف يقتطعون منها بقدر ما مكنت لهم مواقعهم بالقرب من السلطة وعلاقاتهم بالحكومة، وتحولت وزارة الإسكان إلى متعهد لبيع الأراضى بأبخس الأثمان وراح المصريون يصبون ثرواتهم فى غابات من الخرسانة المسلحة ملأت الساحل الشمالى وضواحى المدن فتجمدت الملايين فى عمائر غالية الثمن خالية فى معظم الأوقات، وتوقفت بذلك ثروات المصريين عن الدوران الاقتصادى المفيد للمجتمع، ونسى الجميع فى هوجة البناء والاستحواذ أن ساحل البحر المتوسط الشمالى لم يعد فيه مكان لعموم المصريين إذا أرادوا الذهاب إلى شاطئه ونترحم على ساحل الإسكندرية الذى ضاق بزائريه. وبخلاف السباق المحموم على الاستثمار فى الأراضى دخل البعض فى مشاريع صناعية سهلة الربح كالسجاد والسيراميك بينما حصل الأقوى والأكثر حظوة على امتيازات خيالية فى مجال البترول والغاز وحديد التسليح، وظل الهدف الرئيسى هو الكسب السريع وبأقل التكاليف وبدون مخاطرة، وبدون ضرائب أيضا حتى صارت هذه كلمة قذرة لا يصح النطق بها.

وبينما تكومت المليارات فى جيوب الأغنياء وانفتحت حول كل منهم بيوت عديدة للمجاورين يرجون الفتات، تراجعت الصناعة المصرية أمام تيار الاستيراد وتوقفت مئات المصانع وبيعت قلاع صناعية ضخمة وتدهورت الحياة فى الريف والمدن. جرف الفلاحون أراضيهم الخصبة ليبنوا مساكن يعشون فيها بأقل التكاليف فخرجت عشوائية قبيحة تنطق فى كل ركن بالفقر وانعدام التخطيط وفساد فى الذوق لا ينافسه إلا قبح عشوائيات المدن.

●●●

والآن ورغم مرور خمس سنوات على ثورة المصريين من أجل النهوض والتقدم ورغم جهود هائلة تسابق الزمن لاستعادة عجلة التقدم للأمام ينبغى الاعتراف أن فلسفة الحكم فى مصر مازالت تعتمد على الاقتراض والمعونات وتضع مسئولية النمو الاقتصادى فى أيدى حفنة من رجال الأعمال الذين كونوا ثروات طائلة فى عهد الفساد السابق، وتتوسل بالبورصة ودعوات الاستثمار لعل تدفق الأموال أن يستمر وأن يعتدل الميزان. لكن بكل أسف لا يمكن لمثل هذه السياسة أن تحقق المطلوب، فمساعدات الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين لن تقيل العثرة لأنها تأتى مرهونة بقيود مختلفة، ولكونها مساعدات فهى تفقد قيمتها بمجرد وصولها الخزانة إذ تتلقفها أيادٍ كثيرة نهمة، والذين يعملون فى الوزارات المختلفة يعرفون كيف تنفق أموال المشاريع التى تصل من أموال المعونات، أما قروض البنك الدولى فتأتى مشروطة بنفس اسطوانة رفع الدعم المشروخة، ولا تؤدى إلا إلى خنق فرص التقدم.

لكن هذا التقدم لن يتحقق إلا بتبنى سياسات تنقل ثمار النمو الاقتصادى إلى السواد الأعظم من المصريين، وتطور نظام ضريبى يضمن مشاركة الأغنياء فى تحمل أعباء تمويل الخزانة، ثم توسيع دائرة النشاط الاقتصادى لتشمل المشاريع الصغيرة. ونحن بحاجة لإعادة رسم السياسة الاقتصادية للدولة بحلول مبتكرة تتعامل مع ظاهرة الاقتصاد الموازى الذى يفرز ظواهر العشوائية الكئيبة والباعة الجائلين والعمال غير المهرة ويشكل عبئا على برامج التنمية. إن الاعتماد على القدرات الذاتية فى تطوير وسائل الإنتاج وتوليد الثروة والإقلاع عن تلقى المساعدات والقروض هى الوسيلة الوحيدة ليتعلم المصريون صيانة المال الذى ينتجونه، أما المعونات فتذهب هباء بمجرد وصولها. نحن لا نحتاج للبورصة وإذا اعتمدنا على أنفسنا ونجحنا فى استرداد ميزان المدفوعات إلى الموجب فستأتينا الاستثمارات الخارجية تلقائيا وبشروطنا ولن نحتاج لامتهان كرامتنا الوطنية ومصالحنا الاقتصادية فى سبيلها. نحن بحاجة إلى رؤية جديدة تربط بين تطلعاتنا الوطنية واكتشاف القدرات المخزونة فى شعبنا مثل الثروات المخزونة فى أرضنا والتى مازالت قوى خارجية غامضة تحول بيننا وبينها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved