الهيمنة الغربية.. المشهد الدولى الحالى إلى أين؟
قضايا عالمية
آخر تحديث:
الأربعاء 12 يونيو 2024 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
نشر الدكتور فيليب زليكو Philip Zelikow وهو أكاديمى له شأنه، دراسةً طويلة نسبيًا ثرية فى محتواها تقارن بين المشهد الدولى الحالى ومشهدين سابقين؛ المشهد بين سنة ١٩٣٧ و١٩٤١، والمشهد بين ١٩٤٩ و١٩٦٢، وهذه المشاهد تشترك فى تعرض وتصدى الولايات المتحدة لهجوم تكتل أو تحالف دول تريد أن تُنهى الهيمنة الغربية على النظام العالمى، ويقول زليكو ما يفيد أن الولايات المتحدة (وحلفاءها) أقل استعدادًا لهذه الجولة، مما كانوا عليه فى الجولتين السابقتين.
ولا يتسع المجال لعرض شامل لهذه الدراسة القيمة، وأتصور أن قراءتها بتأنٍ واجبة، فما يهمنى فى هذا الإطار مقولتان رئيسيتان؛ الأولى: أنه على المدى المتوسط والطويل، ميزان القوة فى صالح الغرب، لأسباب موضوعية وذاتية، منها تفوقه الاقتصادى، ومنها أن الغزو الروسى لأوكرانيا أيقظه من سباته، ولكن الوضع على المدى القصير فى غاية الخطورة؛ لأن التكتل الذى يهاجم الغرب قوى للغاية، فإنه يضم الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، وأغلبهم مالك للسلاح النووى، ويعلم ــ أو المفروض أنه يعلم ــ أن الوقت يلعب ضده، ولذلك قد يرى أن الأنسب أن يهاجم الآن، ويكثف من هذا الهجوم الآن، ليحقق أكبر قدر من المكاسب قبل أن يعد الغرب العدة. ولذلك ستشهد السنوات المقبلة مزيدًا من التوتر الدولى. ويرى زليكو أن تبعات النتيجة النهائية للحرب الروسية الأوكرانية ستكون ضخمة للغاية.
المقولة الثانية تختزل أو تبدو وكأنها تختزل أزمات الشرق الأوسط فى مواجهة إسرائيلية غربية/إيرانية، مع ميل ــ وفقًا لزليكو ــ الدول العربية المؤثرة إلى نهج سلوك كسنجر.. الاستفادة من تنافس الآخرين لتعظيم المكاسب. وهذه المقولة خطرة على مصالح الدول العربية والقضية الفلسطينية؛ لأنها ترى أن القضية الفلسطينية باتت ــ أو كانت دومًا ــ قضية أعداء الغرب، أو يوظفها أعداء الغرب. وأتصور أنه يتعين علينا الجمع بين الدفاع عن مصالحنا ومقاومة هذا التشخيص بإثبات أن حل هذه القضية حل عادل لن يضر الغرب، بل يقويه ــ ولا يعنى هذا الاصطفاف معه.
• • •
أريد أن أتوقف قليلًا أمام ما يقوله زليكو عن تبعات نتيجة وحصاد الحرب الروسية الأوكرانية، لا أعرف إن كانت الولايات المتحددة تتبع استراتيجية مدروسة أو إن كان ما يبدو وكأنه استراتيجية مدروسة هو محصلة قرارات ظرفية حكمها منطق «غير واعٍ» بنفسه. هذا المنطق قام على ضرورة موازنة الدعم لأوكرانيا لوقف التقدم الروسى وربما استرداد أكبر عدد من الأراضى (هذا الهدف لم يعد على الطاولة) وضرورة عدم دخول مواجهة صريحة مع موسكو قد تؤدى إلى حرب نووية يلوح بها الرئيس بوتين باستمرار. أى أنه يبدو أن الولايات المتحدة ــ على الأقل الرئيس ومستشار الأمن القومى وبعض قادة البنتاجون ــ يرون أن المسرح الأوروبى أقل أهمية بكثير من المسرح الهندى الهادئ وأن هذه الحرب الروسية الأوكرانية غير وجودية بالنسبة للولايات المتحدة ولا تهدد مصالحها الحيوية، بل هى فرصة لإرهاق الجيش الروسى وتكبيده خسائر كبيرة وإفقار روسيا وحل محلها كمورد للطاقة للقارة الأوروبية.
وما يدعم الرأى الذاهب إلى عدم وجود استراتيجية مدروسة، هو التغيير الدائم فى تحديد أهداف الحرب، والضغط الأمريكى القوى السنة الماضية لتشن أوكرانيا هجومًا مضادًا رغم عدم امتلاكها سلاحًا جويًا وهو من مقومات النجاح، والتغيير المستمر فى قواعد الاشتباك التى يفرضها الغربيون على أوكرانيا.
• • •
كيف يمكن تقييم المسلك الأمريكى الغربى؟ من ناحية لا يمكن إدانة مسئولين يتعاملون مع تهديد نووى إن بالغوا فى الحرص، لا سيما إن أدخلنا فى عين الاعتبار أن روسيا قد تلجأ إلى هذا السلاح فعلًا، نظرًا لتبعات هزيمة النظام بعد فرضه هذا الكم من التضحيات على شعبه، ولروسيا ذكريات مريرة لما يحصل من هزات داخلية عنيفة بعد الهزيمة، ويمكن القول إن الأمريكيين نجحوا إلى الآن فى منع انهيار أوكرانيا وفى استنزاف الجيش الروسى وإفقار الاقتصاد الروسى، وأخيرًا أدى العدوان الروسى إلى إجبار أوروبا على الانتباه للمخاطر والتهديدات وعلى إعادة تسليح نفسها، ومن ناحية أخرى يبدو لى أن المسئولين الأمريكيين غير منتبهين أو يتصرفون وكأنهم غير منتبهين لتبعات نصر روسى وتبعات السلوك الأمريكى (سلوك السلطتين التنفيذية والتشريعية) خلال هذه الحرب، ولن تكفى المقاربات السفسطائية الساعية إلى تقديم هزيمة جزئية لأوكرانيا أو اضطرار روسيا إلى «الاكتفاء» بضم بضعة أقاليم، وربما بإحكام السيطرة على شواطئ البحر الأسود، على أن هذا نصر غربى، لن تكفى البراعة السفسطائية لتحويل الهزيمة الأوكرانية إن حدثت إلى نصر مبين.
ولكن مشكلتى الرئيسية ليست مع قراءة زليكو للماضى أو فى تقييمه للخطورة البالغة للمشهد الدولى الحالى وهى خطورة ستستمر بل ستتصاعد لسنوات، مشكلتى الرئيسية فى تفاؤله النسبى فيما يخص المدى المتوسط/ الطويل. يبنى زليكو تشخيصه على قوة الاقتصادات الغربية (مع الأخذ فى الحسبان اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا)، وعلى الريادة التكنولوجية والعلمية، وعلى وعى الغرب بخطورة المرحلة وسعيه إلى تجهيز نفسه لخوض معارك العقد القادم. هو محق فى تقييم موازين القوة الاقتصادية، ولكن معركة الريادة التكنولوجية معركة غير محسومة، مع الإقرار أن فرص الغرب نوعًا ما أحسن.
هذا التفاؤل قد يكون فى محله، ولكنه يبدو لى أن هناك مشكلة كبيرة فى «الجبهة الداخلية» للدول الغربية، أقر أن المسرح الهام سيكون غالبًا فى المحيطين الهندى والهادى، وهو مسرح لا تلعب فيه أوروبا «العجوز» الضعيفة عسكريًا دورًا يعتد به، وأعترف أننى لا أعرف الولايات المتحدة معرفة متعمقة، ولكن الزملاء المتخصصين فى الشأن الأمريكى يتحدثون عن «انحلال» أو عن «استقطاب مجنون» وعن خضوع النخب لأيديولوجيات يمينية أو يسارية مجنونة باعثة للفتن. وأضيف إلى هذا عجز النخب عن تجديد نفسها.. فالمرشحون للرئاسة مسنون، والنظام السياسى الأمريكى القائم على الضوابط والتوازنات يصاب بسهولة بالشلل... إلخ. ويلاحظ أخيرًا وليس آخرا أن روسيا بارعة براعة مؤسسية موروثة فى شن الحملات الإعلامية التى تعمق الاستقطاب فى الدول الأعداء، والتى تستغل مآخذ «الجنوب» على الغرب لترويج خطابها وتوظيف المطالب الجنوبية، وأن كلًا من إيران وروسيا والصين وكوريا يجيدون فنون الحروب الهجينة.
يرى الدكتور أن المعسكر المعادى للغرب سيكثف جهوده وهجماته فى السنوات القادمة، وأميل إلى رأيه، مع عدم استبعاد سيناريو مختلف قليلًا.. لست متأكدًا أن الروس والصينيين يرون أن الغرب «نهض» أو فى طريقه إلى النهوض، أعتقد أنهم يرون أنه يمضى قدمًا فى طريق الأفول، وأن الحروب الهجينة الساعية إلى إضعاف الجبهات الداخلية تسرع الأفول فى تمهيد ضرورى لعمليات أكثر تقليدية.
• • •
المقولة الثانية تلفت نظرنا إلى ميل النخب الأمريكية إلى قراءة الصراع العربى الإسرائيلى على أنه فصل فى صراع أوسع بين الغرب وأعدائه، وهو تصور قد يكون خطيرًا على المنطقة وعلى القضية الفلسطينية وعلى الدول العربية وعلى المعسكر الغربى نفسه، إن أدى إلى رسم سياسة ترى ضرورة سحق الفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطينى، وقد يكون فرصة إن تم رسم سياسة أمريكية تدرك ضرورة حرمان «المعسكر الآخر» من ورقة هذه القضية العادلة، سياسة تعمل مع الأطراف الإقليمية لإنهاء الحرب، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية، وتعيد بناء غزة، وتفعل خيار الدولتين. بيد أن مشكلات وعواقب تعقد اختيار هذا المسار، ليس أقلها اشتعال المسارح فى كل أنحاء المعمورة؛ مما يشتت الاهتمام الأمريكى، والرفض الإسرائيلى ــ المطلق حاليًا ــ لخيار حل الدولتين، وهو حل يتطلب تمكين وتسليح وتمويل السلطة الفلسطينية ــ وهو ما ترفضه السلطات الإسرائيلية، وأخيرًا وليس آخرًا الكلفة الداخلية لموقف ضاغط على إسرائيل.
هذه التعليقات لا تفى دراسة زليكو حقها، ولا تتعامل مع كل توصياتها (الخاصة مثلًا بالسلاح الاقتصادى وبالتفكير الجاد فى استراتيجيات توظيفه)، فهى من أهم ما نشر هذه السنة، ووفق زليكو فى شرح عدد كبير من العوامل، والمحددات، وفى استرداد أجواء عمليات اتخاذ القرار أثناء صراع دولى محتدم. فى الدراسة عدد من الأفكار والخواطر المهمة، تساعدنا على فهم مشكلات إدارة الصراعات، فى بيئة تجعل من المستحيل إلمام صاحب القرار ومعاونيه وأجهزته بكل ما يجب أن يعلموه، ناهيك عن استحالة توقع ردود فعل الفاعلين والتغييرات المفاجئة فى خططهم. زليكو يقول لنا: على الكل تعلم فن اتخاذ القرار رغم عدم الإلمام بكل العوامل.
توفيق أكليمندوس
المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية
النص الأصلى