يدور الباب الكبير دون توقف فيدخل من هم فى الشارع إلى بهو العمارة ويخرج سكان وزوار البناء إلى العالم. هو باب نصفه الأسفل من الخشب ونصفه الأعلى من الزجاج، وتتوسط قسميه قطعة معدنية أفقية يدفعها مستخدمو الباب حتى يلف فيخرجون أو يدخلون. لا أذكر يوما لم أكن فيه ضمن حركة هذا الباب، زجاجه يسمح لى بالنظر إلى من حولى وخشبه يمنعنى من القفز إليهم.
هو باب يفصل تماما بين عالمين، بين الشارع المزدحم بالسيارات والمشاة والبائعين المتجولين، وبين مرتادى البناء من سكان أو موظفين فى مكاتب شركات اختارت شققا فاخرة تدير منها أعمالها. يفصل الباب أيضا بين حرارة الخارج وتبريد الداخل فى الصيف، وبين برد الشارع ودفء البهو فى الشتاء.
هو عالم بذاته بين عالمين. هو فسحة بين كوكبين، هو وقت مقتطع بين عامين. وأنا عالقة فى الباب الذى لا يتوقف عن الدوران.
***
أظن أن بإمكانى اختصار الحياة كلها فى هذا الباب الدوار. نحن ندفعه لحظة خروجنا من بطون أمهاتنا، ثم نقف لنلتقط أنفاسنا وننظر حولنا بذهول من خرج من الظلام إلى النور. لحظات قصيرة ريثما نعى اتجاه الدفع ثم نلقى بعزمنا على المقبض المعدنى وندفع. ها نحن بدأنا الجولة الأولى. نرى العالم من خلال الزجاج لكن كل شىء يمر بسرعة بينما الباب يدور ونحن عالقون بين ألواحه الخشبية والزجاجية. تماما كما تمر الحياة ونحن ندور حول نفسنا. ننظر من خلال الزجاج فنرى وجوه من نحب ترنو إلينا بابتسامة سلام عجلة، لكنها تختفى قبل أن نرد السلام. فى الطرف الآخر وجوه لا نعرفها لكننا نلتقط نظرات فيها الكثير من المعانى. هل نقفز من المدخل لنتعرف على أصحابها؟
***
أنا عن نفسى أعترف أننى عالقة فى الباب، لا أنا أدخل إلى المبنى ولا أنا أخرج منه. لا أستطيع أن أتركه ولا أقوى على الدخول إليه من جديد. لا أعرف أيا منهما أختار: الشارع أم البيت، العالم أم القوقعة، الطفولة أم الرشد، حضن أمى أم الغابة. يدور الباب وأنا بداخله وتمر السنوات وأنا عالقة هناك. حتى أننى أشعر أننى تكيفت مع الحركة المستمرة ومع دخول وخروج الناس من حولى. الجار الطيب، الجارة اللئيمة، عامل النظافة، موظفو شركة السياحة، المحامية اللامعة التى تظهر صورها فى المجلات وأراها كل صباح ومساء.
مع كل دورة بين الداخل والخارج أكبر سنة، تظهر علامتها برفق حول عينى، تحت ذقنى أو فى أسفل رقبتى. مع كل دورة أكسب شخصا وأفقد آخر. مع كل دورة أفهم أن الحياة هى هذا الباب، ندخل ونخرج منه حسب الحاجة وحسب الظروف. أفهم أننا نلف حول أنفسنا بينما نستقبل ونودع. ألتقط من هنا أجزاء من حديث، فأساهم فيه ريثما يختفى من يتحدث بسبب حركتى مع الباب المتحرك. أرى من الطرف الآخر صديقتى لكنها تكون قد ذهبت حين أصل فى درفة الباب. ماذا فاتنى مذ كنت عند هذه النقطة فى المرة السابقة؟ وماذا اكتسبت؟
***
الحركة لا تتوقف، من هنا تدخل الحياة ومن هنا تخرج، تمر فوقى، تحاصرنى، تتقاذفنى كالموج فى يوم عاصف. أم تراها تحملنى فى قارب خشبى على هيئة باب متحرك أرى نفسى عالقة بين ألواحه كما يعلق بعضنا بين طيات فستان أمه؟ أرفع قماش الفستان لأغطى وجهى وأنا طفلة فأقتنع أننى اختفيت، هى، أى أمى، أخفتنى داخل فستانها لتحمينى من الدنيا. أشيح بقماش الفستان بعيدا عن وجهى حين أشعر أننى جاهزة لمواجهة العالم. أنا تلك الطفلة، شبيهة بابنتى التى لا أمل من النظر فى وجهها حتى أكاد أشعر أننى هى وأن التى تنظر إلى هى أمى. أدوخ فأنا أشبه أمى وابنتى تشبهنى وها نحن ندور ثلاثتنا فى الباب، باب الحياة الزجاجى. أنظر من خلال الزجاج إلى «الدرفة» التى قبلى فأرى أمى تدفع هى الأخرى بالمقبض الذى أمامها فتكبر سنة وتصغر عيناها الرماديتان خلف تجعيدة جديدة. أنظر خلفى فأرى طفلتى، أم هى أنا، ندفع باب الحياة دون أن نلحق بمن سبقونا حتى لو أننا نراهم ونسمعهم.
***
يدور الباب الكبير فأدخله رضيعة وأكبر مع كل دورة سنة، أحب وأكره، أبنى صداقات وأفك أخرى فى بحثى الدائم عن معنى الحياة. أصطدم بالقسم الخشبى من الباب حين أحاول الإسراع فى خطواتى، أعود فأبطئ من حماسى وأنظر حولى من خلال الزجاج. يدخل هواء الخارج مع كل دورة فتدغدغنى الروائح. تتغير الفصول والوجوه والقصص، وأتغير أنا أيضا حتى ولو كان من الصعب أن أعترف بذلك.
يتوقف الباب فجأة عن الدوران ويكاد قلبى أن يتوقف معه. أجد نفسى وحدى بين الخشب والزجاج فلا أعرف إن كان يجب أن أستمر بالدفع، أم أننى أستطيع أن ألتقط أنفاسى بينما الجميع مشغولون عنى وعن الباب. لا أعرف سوى الدوران، لا أعرف كيف أستخدم المساحة الضيقة بين ألواح الباب سوى بالحركة المستمرة. لا أعرف ماذا أفعل بالدقيقة التى لن يتحرك فيها الباب بين الداخل والخارج. أنا فى مأزق فعلا.
ثم أسمع أصواتا مألوفة، زوجى، ابنى، صديقتى، يدخلون فى الباب من حولى فتعود الحياة إلى. أتنفس بعمق كمن خرج من تحت الماء إلى السطح. أتقبل أن حياتى هى باب يدور دون توقف، وحكايات تأتى وتذهب مع من يدخلونه. حياتى باب دوار لا أعرف كيف أخرج منه.