يتردد على القنوات التليفزيونية إعلان مضمونه أن من حق المواطن أن يعرف، وتؤديه الفنانة إسعاد يونس بقولها «لو بصينا فى المراية.. هى دى البداية». ويسير الإعلان فى وجهة معرفة ما يطلقون عليه إنجازات الحكومة لصالح الشعب، ومن ثم فإنه يُعد من قبيل الإعلانات الموجهة لخلق حالة من الثقة والارتياح لدى المواطنين تجاه حكومتهم من خلال معرفتهم بما يسمى بالإنجازات، فهل تتوقف حدود المعرفة عند هذا القدر من المعلومات؟ ولا تتضمن أن من حق المواطن أن يعرف بمدى خروقات الحكومة عن تنفيذ التزاماتها، أو أن يكون مشاركا رقابيا على أداء الحكومة التى تمثله، أو تدير السلطة فى الدولة نيابة عنه، أم يمتد الحق فى المعرفة إلى كل ما يدور فى أروقة الدولة بسلطاتها وأجهزتها، وألا يكون هناك فاصل لما يريد أن يعرفه، وألا تكون حدود المعرفة موجهة ومحددة من قبل السلطات وتقف عند حد ما تريد السلطة أن يعلمه المواطن بطريقتها وبلغتها سواء كان ذلك صحيحا أو عكس ذلك.
أعتقد أن توافر وسهولة الحصول على المعلومات يعزز الشفافية ويضمن طرقا أفضل للحكم، ويقلل من انعدام الكفاءة والفساد. توفر المعلومات للناس الفرصة فى اتخاذ قرارات مدروسة، والمشاركة فى عملية صنع القرارات التى يكون لها تأثير على حياتهم، وتضع قادتهم أمام المساءلة.
ويمثل الإطار القانونى المصرى الذى يتضمن أحكاما متعلقة بسرية المعلومات مثل القوانين الصادرة بشأن المحفوظات القومية، شئون الاستخبارات، شئون مراجعة وفحص الحسابات، شئون نشر المعلومات العسكرية والمناصب العامة، بالإضافة إلى قانون العقوبات وما يفرضه من قيود تمثل عائقا أمام المواطنين بشكل عام، وذلك على الرغم من كون الإطار الدستورى المصرى قد أباح حرية الرأى والفكر وتداول المعلومات، وقد أكدت المادة 68 من الدستور المصرى الأخير على أن «المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية».
وعلى الرغم من كون النصوص الدستورية قد أحالت أمر تنظيم ذلك الحق للقوانين، إلا أن تلك الإحالة لا تعنى بأى شكل من الأشكال مصادرة الحق فى المعرفة وتداول المعلومات أو الانتقاص منه أو تقييده بالقيود التى تفرغه من مضمونه وتجعل من النص الدستورى مجرد إطار نظرى لا قيمة حقيقية له من حيث الواقع.
***
يعتبر حق تداول المعلومات أحد الحقوق الأساسية التى ترتبط بعلاقة محورية مع جميع الحقوق والحريات الأخرى، كحرية الصحافة، والتنمية والديمقراطية والإصلاح الاقتصادى، فكلما زادت إتاحة المعلومات قابل ذلك زيادة فى فرص التنمية والتحول الديمقراطى، وفرص أداء الصحافة والإعلام لرسالتهم، كما يعد حق المواطن فى المعرفة والحصول على المعلومات من أهم مرتكزات الدول الديمقراطية، أما الدول التسلطية فتعتمد على ثقافة تهميش الشعب وحجب المعرفة عنه، الأمر الذى تظهر تداعياته فى انتشار الفساد بسبب غياب للشفافية وتداول المعلومات.
كما يعتبر الحق فى المعرفة وقدرة الوصـول إلـى المعلومـات أداة لمحاربـة الفقر كما أنهـا تعــزز الشـفافية وتقلــل مــن الفسـاد، وتعد من أهم وسائل إشراك المواطنين فى عملية صناعة القرارات السياسية، بحسبهم أولى الشأن والمخاطبين بهذه القرارات، كما أنها تضع القائمين على السلطة السياسية فى وضع المساءلة، وذلك من خلال إتاحة حق الشعوب فى رقابة حكوماتها محل التنفيذ.
ولكن من زاوية التطبيق الواقعى نجد أن أمر الحق فى المعرفة وحرية الوصول إلى المعلومات وتداولها من الأمور صعبة المنال فى مصر، حيث تعانى الحياة فى مصر فى ظل الترسانة القانونية المحتمية بمعايير فضفاضة مثل الحفاظ على الأمن القومى، والأمن العام وغير ذلك من المصطلحات التى يزج بها داخل القوالب القانونية تجعل من حق المعرفة مجرد إطار من غير مضمون، وهو بالفعل ما عبر عنه الإعلان الحكومى باختصار شديد، لا يتعدى كون أنه لا حق إلا ما تريده السلطة، ولا معرفة إلا لما تريد هى أن تعلمه، وكأنها تخاطب مواطنين لا ينتمون إلى تراب هذا الوطن، وهو الأمر الذى يزيد مسافة البعد ما بين الحكومة والشعب المحكوم، وقد عبر عن ذلك المعنى الشاعر الراحل / عبدالرحمن الأبنودى بقوله «بين الإمام والمصلين، فيه اتصال مفصول، أو انفصال موصول». فهل تخشى الحكومة من معرفة المواطنين ومشاركتهم فى الأمور التى تخص حياتهم؟ وماذا تخشى السلطة الحاكمة فى ذلك؟ ومن أهم الأمثلة على غياب الشفافية والمعرفة وتداول المعلومات وفى المجمل الرقابة الشعبية جعل جلسات مجلس النواب المصرى سرية فى صورتها العامة على الرغم من كونها فى الأصل علانية، ولا يبث منها إلا ما تريده الدولة أن يصل للمواطن، على الرغم من كون الافتراض البديهى أن هذا المجلس بحسب تسميته هو نواب عن الشعب، لا يديرون أمورا تخصهم كنواب بذواتهم، بل يتناقشون فى أمور تخص الشعب صاحب الأصالة التى هم وكلاء عنه، وأن ما يجب أن يكون عليه الوضع العادى هو مشاركة الشعب فى الرقابة الشعبية على أعمال الحكومة، التى يديرها مجلس النواب على سبيل الفرض الجدلى، ولكن لا تجد لأى من ذلك صدى فى الحياة الواقعية، ومن ثم بات الأمر مجرد شكليات لا تتصل بالحقيقة، ولا ترتبط بالواقع، وهو الأمر الذى يجعل من انهيار ثقة الشارع فى نوابه وحكومته أمرا مقضيا.
***
تتجلى صورة بهتان معالم الحق فى المعرفة من ناحية الحكومة فى عدم مصارحة الشعب بكل ما يخصه من الأمور السياسية، أو الشأن العام، وكيف لا وهى التى قد صاغت قانونا بمنع الطعن على العقود التى تكون الدولة أحد أطرافها إلا من ذوى الشأن فى تلك العقود، وبالتالى هو الأمر الذى يترتب عليه عدم معرفة ما تديره الدولة من المال العام، وكيف يتم التصرف فيه، وهل هذه التصرفات تصب فى مصلحة المواطنين من عدمه، وكأنها تتعاقد بالأصالة عن نفسها أو أن هذا المال لا يخص هذا الشعب، وبالتالى يجب حرمانه من الحق فى الرقابة عليه، ومعرفة سبل إنفاقه.
إذن وفى ظل كون سياسة الأمر الواقع وما تفرضه السلطة من معايير هى لسان حال الحكومة، تبقى النصوص القانونية أو الدستورية أو حتى ما جاءت به الاتفاقيات الدولية من الحفاظ على ذلك الحق وإتاحته للجماهير، هى مجرد ألفاظ جوفاء لا قيمة لها فى المحافل التنظيرية.