عندما تطير الطواويس
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الأربعاء 12 أغسطس 2009 - 11:47 م
بتوقيت القاهرة
قبل أسابيع قليلة صدرت عن دار الشروق مجموعة قصصية للرائع بهاء طاهر حملت عنوان «لم أعرف أن الطواويس تطير»، يلتقط القارئ من بين سطورها هواجس آخر العمر التى تتملك الكاتب بقوة وتفرض نفسها على أربع من قصص مجموعته الست. فى كل واحدة من القصص الأربع ستجد بطلا فى خريف العمر يحاول التمرد على واقعه بما يتراءى له من وسائل، والبطل قد يكون هو طائر الطاووس أو عجوزا فرنسية أو مهندسا على المعاش أو كاتبا كبيرا،لكن كلهم يقفون أمام السؤال الصعب عن كيف السبيل إلى التمرد على أوجاع الشيخوخة وإحباطاتها؟ ويقدمون لهذا السؤال إجابات مختلفة.
القصة التى استوحى منها بهاء طاهر عنوان المجموعة كلها «لم أعرف أن الطواويس تطير» هى القصة الثالثة وهى أجمل القصص كافة، ففيها من روح الكاتب الشىء الكثير.تحكى القصة عن موظف سابق بهيئة دولية فى بلد أوروبى يعود لزيارة حديقة الهيئة بعد سنين طوال، ونفهم منه أن الحديقة أهداها أحد الأثرياء للهيئة الدولية لكنه اشترط عليها أن تحافظ على الطواويس السبعة التى تسكن الحديقة حرة وحية.ولذلك عندما اعتلى ذات يوم أحد الطواويس غصن شجرة أرز من أشجار الحديقة وتعرضت حياته للخطر ؟؟؟؟؟ لإنقاذه رجال المطافئ، لكنه مضى يراوغهم ويطير من غصن عال لغصن أعلى،حتى أتت لحظة وهن فيها العزم منه فألقى عليه أحدهم بشباكه فقنصه وأنزله من عليائه إلى أرض الحديقة.
يعيش القارئ بكل وجدانه تفاصيل صراع الطاووس المُتعَب العجوز مع رجل الإنقاذ، يداخله شعور خفى بأنه هو نفسه هذا الطائر الباحث عن الحرية تماما كما شعر الموظف الدولى السابق، ويتمنى مثله لو أفلت الطاووس من شباك الصياد حتى ينتصر لكل من يحاولون تجربة أجنحتهم الكسيرة فى ربع الساعة الأخيرة من العمر.بل لعل القارئ يضبط نفسه متلبسا بإطلاق نداء للطاووس وقد شارف الصياد على أن يقنصه فيهتف مثلما هتف الموظف مذعورا «تحرك! قاوم! طِر».
لكن الطاووس لم يتحرك ولا قاوم أو طار، بل أُسِر كما قد يُؤَسَر أى مغامر ليذكرنا مع بطل القصة/الكاتب أننا مثله لم نعد نقوى على التحليق والطيران، فيتسرب اليأس من نفسه إلينا حين يقول «يا طائرى العجوز أشباه عوادينا».
وقد عاد بهاء طاهر فى قصته الأخيرة «الجارة» يحكى على المنوال نفسه عن هاجس مماثل من هواجس آخر العمر،فبطلة القصة إيفيت الأرملة الفرنسية العجوز وجارة المصرى عويس فى الغربة،هى فى الواقع نوع من الطواويس الطائرة بحثا عن عمر يمتد لألف عام.انجذب عويس إلى إيفيت بل لعله أحبها كما تخابثت عليه زوجته روزالين وقالتها له مرة، فقد كان ما يشده إليها تشابه ظروفهما.
إيفيت أرملة لأحد المهاجرين الأجانب كما أن عويس متزوج من امرأة فرنسية،وعويس مثلها تماما عانى من عقوق الابن بعد أن تزوج هذا الأخير، وكل الفارق أن ابن إيفيت هو جاك أما ابنه هو فسمير.لكن يقينا كان أكثر ما جذب عويس لإيفيت هو إعجابه بحبها للحياة، فقد كانت السيدة العجوز دائبة التردد على الكوافير ليصفف شعرها،تحتسى الإسبرسو على مقهاها المفضل وتمازح نادله وتدعوه خطيبى، توصد باب بيتها وهى نصف فاقدة الوعى ثقة منها أنها ستعود إليه، وتفهم الحياة لألف عام على أنها نزهة فى حديقة مثمرة أو لحظة تأمل أمام البحر.إيفيت تماما مثل الطاووس كانت تحاول أن تطير هربا من واقعها حيث العجز والشيخوخة، لكنها على العكس منه أفلتت من شباك الصياد..ولو إلى حين.
ثم أليس المهندس العجوز عاشور فى القصة الرابعة «سكان القصر» نموذجا آخر لتجسيد الصراع من أجل البقاء؟ كان عاشور يشعر بغربة تامة عن واقعه بناسه وأحداثه وتفاهته وانغلاقه. يحن إلى المقهى المطل على كورنيش الإسكندرية، يأكل فيه مع صديق عمره بهنسى الجمبرى والجندوفلى ويحتسيان الخمر ويملآن عيونهما بمرأى الشابات الأنيقات وهن غاديات رائحات لا يعترضهن أحد. اليوم هو يحتسى القليل من الخمر سرا وتوارت الحسناوات عن الأنظار.هكذا صار الماضى هو الجناح الذى يفرده عاشور ليطير هربا من اكتئابه فلو ترك له نفسه لقتله، وبالطبع فإنها مفارقة أن يطير الإنسان فى الماضى أو يطير بالماضى لكن هذا هو حال كل مقاومة بالسلب.
أما القصة الرابعة «انت اسمك إيه؟» فإنها تدخل السرور على قارئها لأنها تصور حالة خاصة من حالات التمرد على العد العكسى لسنين العمر.فى هذه القصة نعيش مع الجد جلال الذى يجدد شبابه فى حفيده ويتحول فى لحظة إلى طفل يلاطف الصغير ويلاعبه. يمد له يده بسيارة لعبة وهو يقول له «عبية حمرا»، ويتعلم من ابنته كيف ينونو ويبغبغ عند ظهور قطة أو مرأى حمامة، يروى بغضب غير حقيقى كيف يمضغ الحفيد أغلفة كتب دستوفسكى ويلتهم روايات تولستوى،ويحمل أحمد على كتفيه ويجرى فى أرجاء الشقة لتجلجل ضحكات الحفيد فتروِّح عن النفس ساعة. آه هى إذن تلك القهقهة الصافية التى يحلق بها الجد إلى أعلى ويرتوى من مائها فى زمن الجفاف.
ستحب طواويس بهاء طاهر التى أدهشه طيرانها كما لعلك أحببت كثيرا من أعماله، لكن ربما كنت تفضل لو أن كل قصص المجموعة الست دارت حول تيمة شجون خريف العمر من باب اتساق وحدة التحليل لا أكثر، أما وقد ضمت المجموعة بخلاف القصص التى تعالج هذه التيمة قصتى «كلاب مستوردة» عن الخلافات الزوجية و«قطط لا تصلح» عن مشكلات العمل، فإن هذا قد جعلهما خارج السياق وجعل تفاعل القارئ معهما أقل من باقى القصص.