الاستقواء السياسي بالسلاح النووي
محمد السماك
آخر تحديث:
الإثنين 12 أكتوبر 2009 - 10:11 ص
بتوقيت القاهرة
لا توجد حجة أقوى للدفاع عن الملف النووى الإيرانى، من انتقادات إسرائيل لهذا الملف ومن تحريضها دول العالم ضد إيران على خلفية «نواياها» النووية.
لو كانت إسرائيل لا تملك مفاعلات نووية فى ديمونة وفى سواها من صحراء النقب، ولو لم تكن تطمئن إلى ترسانة من أكثر من 200 قنبلة نووية مختلفة الأحجام.. والقدرات التدميرية، ولو لم تكن تملك أنواعا من الصواريخ التى تقدر على حمل الرءوس النووية إلى أى عاصمة عربية والى معظم المدن الإسلامية، ولو لم تكن المظلة العسكرية الأمريكية النووية والتقليدية فى خدمة الأمن الاستراتيجى الإسرائيلى،
لو لم يكن ذلك كله واقعا معروفا ومعلنا ومنذ عقود طويلة، لكان بالإمكان تبرير الانتقادات الإسرائيلية، بل ربما تفهّم القلق الإسرائيلى الذى تعبّر عنه بالتهديد المتكرر بقصف المفاعل الإيرانى.
أما وأن إسرائيل دولة نووية؛ أما وأنها غير منضمة إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية؛ فهى آخر من يحق له انتقاد إيران أو الطعن بحقها فى تطوير صناعتها النووية. لقد سبق أن هددت إسرائيل باستخدام سلاحها النووى ضد كل من مصر وسوريا فى عام 1973. حدث ذلك فى الأيام الأولى من حرب أكتوبر ــ رمضان من ذلك العام، عندما تمكنت القوات المصرية من اجتياز قناة السويس وتدمير خط بارليف والتوغل فى عمق سيناء المحتلة، وعندما تمكّنت القوات السورية من اختراق التحصينات الإسرائيلية فى الجولان وجبل الشيخ. يومها بدأت الدفاعات الإسرائيلية تتهاوى، فقرّرت رئيسة الحكومة الإسرائيلية فى ذلك الوقت جولدا مائير اللجوء إلى السلاح النووى.
غير أن الولايات المتحدة، تحسبا من رد فعل سوفييتى يجرّ إلى مجابهة نووية أمريكية ــ سوفيتية، سارعت إلى إقامة جسر جوى لتعويض إسرائيل بالسلاح والرجال، واستطاعت بذلك من إعادة قلب موازين القوى العسكرية، مما أدى إلى انتفاء أسباب استخدام السلاح النووى الإسرائيلى. ولو إلى حين!
اليوم تقيم إسرائيل الدنيا ولا تقعدها ضد القرار الذى اتخذته الجمعية العمومية للوكالة الدولية للطاقة النووية فى فيينا لمجرد أن القرار يحضّها على الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ويدعوها إلى السماح للمنظمة الدولية بتفتيش منشآتها النووية المزروعة فى صحراء النقب.
لقد جاء هذا القرار فى أعقاب حملة شديدة شنّها المندوب الإسرائيلى فى الجمعية ضد إيران وتطلعاتها النووية. ورسم هذا الموقف الإسرائيلى علامات استفهام كبيرة. إذ كيف يمكن لدولة ليست عضوا فى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية أن تنتقد السياسة النووية لدولة عضو فى المعاهدة؟ وهل يجوز لدولة تملك المفاعلات النووية وتنتج القنابل النووية أن تقود حملة على دولة أخرى لمجرد اتهامها بأنها تسعى إلى إنتاج السلاح النووى؟ ثم بأى سلطة تعطى إسرائيل نفسها حق التهديد بضرب المفاعل النووى الإيرانى، كما ضربت فى عام 1982 مفاعل تموز العراقى ودمرته على من كان فيه من علماء.
لاشك فى أن هذه الصورة كانت فى ضمير أعضاء الجمعية العامة للوكالة الدولية للطاقة النووية عندما فاجأوا إسرائيل بالقرار الذى اتخذوه. فإسرائيل ترفض السماح للوكالة الدولية بتفتيش منشآتها النووية، فى الوقت الذى تفتح إيران منشآتها النووية أمام الوكالة. صحيح أن الوكالة تتهم إيران بعدم التعاون الكافى، إلا أن الوكالة لا تنكر على إيران حدا أدنى من التعاون كما أعلن عن ذلك الدكتور محمد البرادعى أثناء زيارته الأخيرة لطهران.
لم تكن تلك المرة الأولى التى تتخذ فيها الجمعية العامة للوكالة قرارا من هذا النوع. ففى عام 1991 اتخذت قرارا مماثلا أيضا، إلا أن إسرائيل ضربت به عرض الحائط. وبدلا من أن تجرّد الوكالة الدولية إسرائيل من عضويتها، استطاعت الولايات المتحدة والدول النووية الغربية الأخرى (بريطانيا وفرنسا) حماية العضوية الإسرائيلية وتحويل قرار الجمعية العامة إلى مجرد قصاصة من ورق!
أما الآن، وفى ضوء القرار الذى صدر بالإجماع عن مجلس الأمن الدولى وعلى مستوى القمة، والذى دعا إلى العمل المشترك من أجل عالم خالٍ من الأسلحة النووية، لا يمكن الدفاع عن مشروع إيران النووى إذا كان هذا المشروع يستهدف إنتاج السلاح. غير أنه ليست إسرائيل هى التى تتولى الانتقاد أو توجه التهديدات. فالنووية الإيرانية لا تزال مشروعا، أما النووية الإسرائيلية فهى ترسانة جاهزة للاستخدام.
******
من هنا أهمية المشروع العربى بتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة منزوعة من السلاح النووى. وهو مشروع مصرى فى الأساس يتماهى مع القرار الجديد لقمة دول مجلس الأمن الدولى. ولكن العقدة التى تحول دون تنفيذ هذا المشروع تتمثل فى الموقف الإسرائيلى. وهو موقف ذو وجهين:
فمن ناحية أولى تصرّ إسرائيل على الاحتفاظ بترسانتها النووية وبتطوير هذه الترسانة وتعزيزها باستمرار بذريعة عدم التوازن الديموجرافى بين الإسرائيليين والعرب. ومن ناحية ثانية تحرص إسرائيل على احتكار إنتاج السلاح النووى وتملّكه فى الشرق الأوسط وتبذل كل الجهود والمساعى السياسية والتهديدية لمنع دخول الدول العربية العصر النووى، ولو على صعيد المعرفة العلمية. ولذلك قصفت مفاعل العراق، ثم قصفت ما «يُعتقد» (؟) إنه مشروع لمفاعل نووى سورى، وهى اليوم تحرّض دول العالم ضد الملف النووى الإيرانى وتهدد بقصف منشآت إيران النووية.
فأن تعرف إيران ــ أو أى دولة عربية أخرى ــ المعادلات العلمية لصناعة القنبلة النووية شىء، وأن تعمل على صناعتها شىء آخر
.
بالنسبة لإسرائيل لا يكفى أن تقول إيران وأن تؤكد أنها لا تنوى صناعة القنبلة النووية. فما يهم إسرائيل هو تعطيل المعرفة الإيرانية وإجهاضها، وهذا يتطلّب تدمير المفاعل، واغتيال العلماء.
لذلك لا يقتصر ردّ الفعل الإسرائيلى على البرنامج النووى الإيرانى على مجرد التهديد. فقد اغتالت إسرائيل عددا من علماء الذرّة العراقيين فى باريس وفى فيينا قبل وبعد نسف مفاعل تموز. وقبل ذلك اغتالت علماء ألمان تعاونوا مع مصر فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى برنامج صناعة الصواريخ.
أما باكستان فقد وظفت بُعدها الجغرافى عن الشرق الأوسط لتصنع قنبلتها النووية تحت مظلة الصراع مع الهند. ومع ذلك استطاعت إسرائيل أن تشوّه صدقية باكستان كدولة نووية تملك ترسانة من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، وذلك على خلفية اتهامها بتهريب أسرار الصناعة النووية إلى إيران وليبيا.
ولا تزال باكستان الغارقة فى خنادق الصراع مع حركة طالبان تتعرض للابتزاز. ولولا حاجة الولايات المتحدة إلى الدور الباكستانى فى أفغانستان لتجاوبت مع الضغوط الإسرائيلية لتجريد باكستان من قدرتها النووية.
من هنا القلق على سلامة العلماء الإيرانيين اليوم من أن يتعرّضوا هم أيضا على يد رجال المخابرات الإسرائيلية إلى محاولات الاغتيال.
ومن هنا القلق كذلك على المفاعل النووى الإيرانى من أن يتعرّض لهجوم جوى إسرائيلى قد ينطلق من القاعدة العسكرية الأمريكية فى جزيرة جارسيا فى المحيط الهندى.
******
فى ضوء ذلك تبرز فى الشرق الأوسط معالم الصورة التالية:
إسرائيل دولة نووية بامتياز، علميا وعسكريا.
إيران فى طريقها إلى أن تصبح ــ أو أنها أصبحت بالفعل ــ دولة نووية، سواء أنتجت القنبلة أو لم تنتجها.
دول مجلس الأمن الدولى تعلن، لأول مرة منذ إطلاق القنبلة النووية الأمريكية على هيروشيما ثم على ناجازاكى فى اليابان فى نهاية الحرب العالمية الثانية، مشروعا لعالم من دون أسلحة نووية.
الدول العربية مجردة ذاتيا من السلاح النووى وترفع شعار تجريد الشرق الأوسط منه. وهى تحاول بذلك أن تستمد من الضعف قوة بأن تجعل من لا نوويتها استجابة مسبقة للحلم الدولى الكبير ــ الجديد.
ولكن بانتظار أن يصبح هذا الحلم حقيقة، فإن الكلام عن تجريد العالم من السلاح النووى يحتاج إلى مسيرة طويلة قد تمتد عقودا عديدة قبل أن تتوافر الثقة المتبادلة بين القوى الدولية المتنافسة. كما أن هذا التوجه يصطدم بالكثير من التحديات ليس أقلها التعثر الدولى فى تنفيذ ما هو أسهل كثيرا وأهم كثيرا وهو التصدى بفاعلية للكارثة البيئية المتمثلة بالاحتباس الحرارى وتداعياته الخطيرة على الإنسانية كلها. إن الدول العربية التى لم تدخل العصر النووى العلمى بعد، ولو حتى لإنتاج الطاقة، تقف مكتوفة الأيدى بانتظار بلورة وتجسيد النوايا الحسنة فى عالم لا يحسب لمثل هذه النوايا أى حساب.
من الواضح أن الخلل فى التوازن العسكرى ــ النووى بين إسرائيل والدول العربية يحول دون تحقيق تسوية سياسية عادلة.. وأن الخلل فى التوازن السياسى ــ النووى بين إيران والدول العربية يعرّض هذه الدول العربية إلى السقوط فى فخ التخويف من جهة، وفى فخ ابتزاز التخويف من جهة ثانية.
ومع هذا اللاتوازن بشقّيه، تتواصل حالة دوران الدول العربية فى الفراغ مثل رقصة الدراويش!