فخلف من بعدهم خلف

إبراهيم الهضيبى
إبراهيم الهضيبى

آخر تحديث: الجمعة 12 أكتوبر 2012 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

التحدى الرئيس المفروض على المنطقة العربية منذ أكثر من قرن يتعلق بالاستقلال والوحدة، وهو تحد تباينت سبل الأنظمة المتعاقبة فى تعريفه وتحديد أساليب التعامل معه، ولو لم يستفد الحكام الجدد من تجارب سابقيهم فى هذا السياق فهم مرشحون لمصير كمصيرهم.

 

●●●

 

بدأ تحدى الاستقلال يطرح نفسه بقوة فى الثلث الثانى من القرن التاسع عشر، عندما تحولت الهيمنة الاقتصادية الغربية بشكل متزايد لتدخل عسكرى واستعمار مباشر، وأما الوحدة فتراجعت بشدة فى الثلث الأول من القرن العشرين، بفرض مفهوم الدولة القطرية باتفاقية سايكس بيكو، وإعلان الجمهورية التركية الذى أعقبه إعلان الملكيات والجمهوريات المنفصلة وفق حدود رسمها الاحتلال.

 

وقد أدى ذلك لتصاعد حركة وطنية واسعة متعددة الأطياف ترتكز على مطلبى الاستقلال والوحدة، وكان تجليها الأول عروبيا، فأفرزت ثورات/تدخلات عسكرية أسقطت أنظمة الحكم، وأجلت المحتل، وحاولت بناء اقتصاد وطنى، محققة قدرا من الاستقلال، كما حاولت الإعلاء من مفهوم «العروبة» والتضامن العربى، محققة قدرا من الوحدة، وقد كانت للأنظمة خطايا تتعلق بالديمقراطية والمسئولية السياسية، أدت أحيانا لهزائم عسكرية، إلا أنها حافظت ــ مع ذلك ــ على قدر من الشعبية بسبب التمسك بمبدأى الاستقلال والوحدة.

 

غير أن هذا التمسك لم يستمر (لأسباب ليس هذا مجال تفصيلها)، فبدأت الأنظمة منذ منتصف السبعينيات تتحول إلى اتجاه مغاير، تراجع فيه مسعى الاستقلال بتوقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، ثم اتفاقية الأردن وإسرائيل، وكلاهما يقوم على الاعتراف بدولة إسرائيل، ويتفاوض بعدها على وضع الفلسطينيين، الذين تغير موقف قيادة المقاومة عندهم فوقعت حركة فتح اتفاقية أوسلو القائمة على حل الدولتين، وتسلمت دور قوات الاحتلال فى قمع المقاومة، ووصل الأمر فى بعض الأقطار العربية كمصر للانتقال من السلام البارد للتطبيع الدافئ للعلاقات، بتشجيع التعاون الاقتصادى مع المحتل كما ظهر فى اتفاقية الكويز.

 

وتوازى ذلك مع تغيرات اقتصادية بدأت بسياسة «الانفتاح» ومرت بإعادة الهيكلة المستعينة بالمؤسسات الدولية، وانتهت بجيل أكثر شراسة فى تطبيق الليبرالية الحديثة، التى أدمجت المنطقة بشكل شبه كامل فى نظام اقتصادى عالمى غير متوازن، تحولت فيه المنطقة لـ«سوق» كبيرة على نحو أفقدها الكثير من استقلالها، كما أمرضها بتنامى فجوات الدخل وزيادة معدلات الفقر.

 

أما الوحدة فتراجعت لصالح الدولة القطرية، بشكل ظهر جليا فى الشعارات التى جعلت قيادة كل بلد ترددها بأن البلد يأتى أولا، وإعادة تعريف المصلحة الوطنية باعتبارها القطرية فقط مستبعدة البعد الأممى، وظهر ذلك أيضا فى مشروعات (الأردنة) و(السعودة) و(الأمرتة) المختلفة وأشباهها.

 

●●●

 

هذه التغيرات أدت لتآكل كبير فى شعبية الأنظمة الحاكمة وشرعيتها، على نحو فتح أبواب واسعة لصعود قوى لبديل أكثر شعبية، تمثل فى الحركات الإسلامية، التى استندت ــ كسابقتها ــ إلى مطلبى الاستقلال والوحدة، تمثل الأول عندها فى مطالبات الحركة بـ«الشريعة» بمفهومها العام، التى مثلت سبيلا للاستقلال الحضارى والمعرفى، بينما تمثل مطلب الوحدة فى اهتمام الحركة بقضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التى اقتطعت نصيبا كبيرا من خطاب الإسلاميين خلال العقود الماضية.

 

ولأجل ذلك ظهرت الحركات الإسلامية فى العديد من بلدان المنطقة باعتبارها البديل، فالإخوان فى مصر بانشغالهم الدائم بقضايا الأمة، باحتكاكهم اليومى بسعيهم لتخفيف الآلام من خلال أنشطتهم الاجتماعية، وبنقدهم الدائم للتغريب، كانوا البديل لنظام سياسى انكفأ على ذاته ولم يعد يهتم بمحيطه، وقبل بتفكك منظومته القيمية لصالح فكرة «السوق»، وسلك مسارا اقتصاديا أدى لإفقار جل المصريين، وفى فلسطين كانت حماس المقاومة، والتى رفضت الاعتراف بإسرائيل، بديلا لفتح التى دب فيها الفساد بعد التفريط والقبول بهيكل أوسلو، ولم يكن الوضع مختلفا بشكل كبير فى جل الدول الأخرى.

 

غير أن الكثير من أوضاع هذه الحركة الإسلامية تغيرت مع اقترابها من السلطة أو وصولها إليها، فحماس بقبولها السلطة بدأت تدريجيا تقبل بهياكل أوسلو، وتوقف نشاطها المقاوم أو كاد حرصا على إنجاح تجربة الحكم، فخلت سجلاتها فى السنوات الأخيرة من أى عملية مقاومة، بل تورطت فيما تورطت فيه فتح من قبل من قمع بعض المقاومين (بقطع النظر عن الاتفاق والاختلاف مع مواقفهم)، فقتلت بعضهم، وصارت أقرب من ذى قبل لدور فتح التى كان انشغالها بأمن إسرائيل أكبر منه بتحرير فلسطين.

 

والإخوان فى مصر استهلوا الحملة الرئاسية بإعادة تأكيد ما أكدوه غير مرة منذ ظهور احتمالية صعودهم السياسى فى أعقاب الثورة، وهو الالتزام باتفاقية السلام، بل صدرت عن بعض قياداتهم تصريحات تنفى أى نية لإلغاء اتفاقية الكويز التى تبقى السلام دافئا وتنمى المصالح الاقتصادية المشتركة، أما على مستوى الاستقلال فقد أكدت قياداتهم غير مرة قبولهم بالسياسات الاقتصادية التى انتهجها نظام مبارك، وقصروا النقد على الفساد، وأبدوا استعدادا للتعامل مع المؤسسات المالية العالمية، الداعمة للنظام الاقتصادى غير المتوازن، ومن ثم كان تكريم اسم الرئيس الأسبق ــ الذى وقع اتفاقية السلام وقاد سياسة الانفتاح الاقتصادى ــ غير مستهجن عندهم.

 

●●●

 

لا شك أن قواعد الإسلاميين تريد الاستقلال والوحدة، إذ التعبئة والتجنيد فى تنظيماتهم تقوم بالأساس على هاتين الركيزتين، غير أن سير القيادات فى ذات المسار الذى سبق لمن مضى فيه الفشل، وقبولهم المتزايد بالعمل فى نفس الأطر الحاكمة (اتفاقية السلام والانفتاح الاقتصادى فى مصر، أوسلو فى فلسطين.. إلخ)، يعكس قصورا فى علاج الأسباب الهيكلية التى أفشلت سابقيهم من الحكام، الأمر الذى سيؤدى ــ لو لم يتم تداركه سريعا ــ لفشلهم.

 

إن مثل هذا القبول بالهياكل الحاكمة يعكس فى حقيقته سقوط «مشروع» الإسلاميين ومسعاهم للتغيير لصالح تجربة «الحكم» التى يرغبون فى استمرارها بقطع النظر عن خدمتها للمشروع، غير أنهم ــ مع ذلك ــ لن ينجحوا على المدى المتوسط أو البعيد، إذ الحفاظ على هذه الهياكل يحمل فى طياته تناقضا بين وعود للمغتصِب والمستغِل بالحفاظ على مصالحه، ووعود للمغتصَب والمستغَل باستعادة حقوقه، ومن اختار بقاء حكمه مرهونا برضاهما معا فمصيره الفشل وإن بعد حين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved