تطوران لافتان شهدتهما الأزمة الخليجية الأسبوع الماضى قد يساهمان بصورة كبيرة فى فك طلاسم الموقف الأمريكى من أزمة نادرة الحدوث بين دول تعتبر نفسها حليفا طبيعيا لواشنطن. جاء التطور الأول متمثلا فى تعليق البنتاجون مشاركته فى مناورات عسكرية مع دول خليجية بسبب الأزمة الدبلوماسية المستمرة من أكثر من أربعة أشهر بين السعودية والإمارات والبحرين من جانب، وبين قطر من جانب آخر.
ونُقل عن المتحدث الرسمى باسم القيادة المركزية للقوات الأمريكية الكولونيل جون توماس قوله «قررنا عدم المشاركة فى بعض المناورات العسكرية احتراما لمبدأ مشاركة الجميع فى تحقيق المصالح الإقليمية المشتركة»، وأضاف توماس للوكالة «سنستمر فى حث كل شركائنا على العمل معا لإيجاد حلول مشتركة تحقق الأمن والاستقرار فى المنطقة».
التطور الثانى جاء فى صورة الإعلان عن موافقة الحكومة الأمريكية على بيع نظام الدفاع الصاروخى المتطور «ثاد» إلى المملكة السعودية فى صفقة تقدر قيمتها بـ 15 مليار دولار. وتهدف الصفقة ــ كما ذكر البيان الرسمى الأمريكى ــ إلى تعزيز الأمن القومى للولايات المتحدة ومصالح سياستها الخارجية، وفى الوقت ذاته ستعزز أيضا من أمن السعودية ودول الخليج ضد التهديدات الإيرانية والإقليمية.
وأتصور أنه لا يمكن فهم الموقف الأمريكى من الأزمة، والذى يبدو للبعض مرتبكا، بعيدا عن مسألتى العلاقات العسكرية التى تجمع واشنطن بدول مجلس التعاون الخليجى كوحدة واحدة، ومسألة مبيعات الأسلحة الأمريكية لدول الأزمة.
***
منذ بدايات الأزمة بدا أن محددات موقف واشنطن ترتكز على نقطتين أساسيتين، أولاهما: ألا يتم اتخاذ أى خطوات عسكرية من أطراف الأزمة، وثانيتهما: ألا تؤثر أى من إجراءات الحصار وغلق المجال الجوى على حرية حركة الطائرات العسكرية الأمريكية المنطلقة من قاعدة العيديد القطرية سواء فى عملياتها المتجهة نحو سوريا أو العراق أو أفغانستان، وبدا واضحا أن الرسالة الأمريكية وصلت بوضوح لكل أطراف الأزمة. ويؤمن الكثيرون من خبراء العاصمة واشنطن أن الدول التى تُسلح جيوشها بعتاد أمريكى لا تحارب بعضها البعض، ولا تسمح واشنطن بذلك من خلال نصوص واضحة فى عقود بيع السلاح التى لا يُطلع على تفاصيلها الرأى العام أو وسائل الإعلام. ويؤكد مسئولون أمريكيون أن واشنطن لا ترحب بوقوع نزاعات بين دول حليفة لها، وأن واشنطن تنظر لمجموعة دول مجلس التعاون الخليجى كوحدة واحدة متجانسة فى إطار استراتيجيتها للمنطقة.
نعم ترتبط واشنطن بعلاقات متنوعة مع العواصم الخليجية، إلا أنها تتشابه من حيث طبيعتها وإن اختلفت فى درجاتها. وجاء هذا التصنيف الأمريكى عقب نجاح الثورة فى إيران وما مثلته من مخاطر على الخليج، وهو ما أعقبه تأسيس مجلس التعاون الخليجى بتشجيع أمريكى فى أوائل ثمانينيات القرن الماضى. واستطاعت واشنطن بناء منظومة عسكرية للأمن الخليجى عمادها وجود عسكرى كثيف ومباشر فى دوله العربية، إضافة لتسليح دول هذه المنطقة وتدريب جيوشها فى مناورات مشتركة تجمعها بدول المجلس مجتمعة، هذا إضافة للمناورات الثنائية التى تجمع واشنطن بكل دولة على حدة. وجاء غزو العراق للكويت عام 1990 والدور الأمريكى فى تحريرها لتتيقن الدول الخليجية، كل على حدة، من ضرورة تدعيم علاقاتها العسكرية مع واشنطن. ودوما ما أكدت واشنطن واستخدمت مصطلح «أمن منطقة الخليج» دون تمييز بين دوله الست التى تصنفهم دوائر الحكم والفكر هنا كدول سُنية.
تعقد واشنطن صفقات سلاح وتقوم بمناورات مستقلة مع تلك الدول، إلا أن المخططين الاستراتيجيين هنا يرون الجانب العربى من الخليج كمنطقة متناسقة تتفرد فيها واشنطن بنفوذ غير مسبوق، ولا تتخيل واشنطن أن تعرقل أو تهدد خلافات الدول الخليجية مصالح واشنطن الاستراتيجية هناك. من هنا تم التأسيس لمناورات مشتركة تسمى «حسم العقبان» والتى تشارك فيها كل دول المجلس مع الأمريكيين وتقام بصورة شبة سنوية وتستضيفها الدول الخليجية بصورة أقرب للتناوب. من هنا كان إعلان القيادة المركزية تعليق المشاركة الأمريكية فى المناورات العسكرية بمثابة محاولة جادة للضغط على هذه الدول لإنهاء الأزمة القطرية.
***
خلال الأشهر الأربعة لأزمة الخليج أعلنت واشنطن موافقتها على بيع عتاد عسكرى وأسلحة متقدمة لكل أطراف الأزمة. قطر تعاقدت على صفقة مقدارها 12 مليار دولار لطائرات إف 15، والإمارات اشترت أنظمة باتريوت للدفاع الصاروخى تتعد قيمتها مليارى دولار، أما البحرين فقد طورت أسطولها الجوى بما يزيد على 3.5 مليار دولار، والسعودية ستحصل على نظام ثاد المتطور والمضاد للصواريخ فى صفقة مقدارها 15 مليار دولار.
وهذه الصفقات، وعلى الرغم من أن الإعلان عنها جاء خلال الأيام والأسابيع الماضية، إلا أنها نتاج جهود ومفاوضات تستغرق فترة زمنية لا تقل عن العام. ويتم اتخاذ قرار بيع أسلحة متقدمة لدول الخليج بعدما يتم بحث الأمر فى وزارتى الخارجية والدفاع، وذلك قبل إرسال توصيات للكونجرس تدعم البيع أو الرفض، ويقرر الكونجرس البيع من عدمه بناء على حسابات معقدة منها التوازن العسكرى الإقليمى وسجل الدول الحقوقى والإنسانى. كل هذه الصفقات المُعلن عنها هى صفقات تم التفاوض فى جزء طويل منها خلال حكم إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. وسنعلم العام الماضى عن الصفقات التى يتم التفاوض حاليا بشأنها بين واشنطن وأطراف أزمة الخليج. ومنذ عام 2009، وطبقا لبيانات وكالة التعاون الأمنى الدفاعى التابعة للبنتاجون، فقد حصلت المملكة السعودية على أسلحة قيمتها 115 مليار دولار، فى حين حصلت بقية دول مجلس التعاون على ما قيمته 84 مليار دولار من أسلحة مشابهة. ومن الصعب على واشنطن رؤية دولة حليفة تستخدم مقاتلة أمريكية ضد جيش دولة حليفة أخرى تستخدم نفس نوع الطائرات.
***
بدلا من الوقوف متحدين أمام مخاطر إقليمية جمة، ضاعفت دول الصراع الخليجى من تعاقداتها التى تكلف مليارات الدولارات مع كبريات شركات تصنيع السلاح الأمريكية، ناهيك عن تعاقدات بملايين الدولارات لشركات اللوبى والعلاقات العامة للدفاع عن موقفها ومهاجمة الطرف الآخر داخل واشنطن. فى العلن، يسعد مصنعى الأسلحة ولوبيات واشنطن من غزارة المال الخليجى المتدفق عليهم فى الأشهر الماضية، ويبدو أنه فى الغرف المغلقة يسخر موظفى بعض الشركات من سلوك هذه الدول، وإهدارها ثروات شعوبها مقابل مكاسب وهمية.