صارت ظاهرة غريبة فى مصر ومتكررة أن يتم استباحة كثير من الناس خاصة الشخصيات العامة التى تتسلل بعض أخبار حياتها الشخصية من زواج أو طلاق أو أى حدث متعلق بتفضيلاتهم الشخصية وطريقة حياتهم وعلاقاتهم الإنسانية أو الاجتماعية.
تتحول حياة الناس الشخصية إلى مادة للسخرية والفكاهة والتندر والهمز واللمز وإبداء الآراء الشخصية فى اختياراتهم، يتزوج فلان من فلانة فتسرع النساء بالسخرية منها وكيف أنه أجمل منها وأنها لا تستحقه ويعيبون عليه اختياره، وتتزوج فلانة من فلان فتنطلق عاصفة من السخرية تجاه زوجها ويتساءلون كيف قبلت أن تتزوج منه وهى أكثر جمالا منه وتستحق من هو أكثر وسامة! يتزوج شخص آخر من فتاة فيتم الهجوم عليه؛ لأنه سبق له الزواج ولديه أطفال من زواج سابق، ويسمح هؤلاء لأنفسهم بالخوض فى حياته بشكل فج حيث يتساءلون هل هذه زوجة ثانية؟ وهل طلق زوجته الأولى أم مازال زوجا لها؟ ثم تشتد حملة الإساءة والتشهير لتطال زوجته الجديدة ويتم اتهامها وتجريحها واغتيالها معنويا، لا لجرم ارتكبته سوى أنها أحبت رجلا وتزوجت زواجا مشروعا يقره الشرع والقانون!
لا يقتصر الأمر على الشخصيات العامة بل هو وباء يتفشى فى المجتمع فى كل الطبقات للأسف، إذا انفصلت امرأة عن زوجها تحاصرها الأسئلة التطفلية السمجة ما هو سبب الطلاق؟ هل الطلاق رغبتك أم رغبته؟ هل ستتزوجين بعد الطلاق؟ وماذا عن الأبناء؟ وهل أحب امرأة غيرك؟ وهل وهل؟ إلى آخر هذه الأسئلة السخيفة التى ليس لأحد الحق فى طرحها على الآخرين.
***
نحن أمام مجتمع لا يحترم الصمت، ولا يقدر حاجة الناس للخصوصية ورغبتهم فى الحفاظ على حياتهم الخاصة بعيدا عن السوق المنصوبة التى يقبل عليها الناس لتداول ــ وكثيرا تحريف ــ الأخبار المتعلقة بالآخرين وانتهاكا لحقهم فى الخصوصية فيجعلون من أنفسهم أوصياء على حياة الناس دون أن يطلب أحد منهم ذلك.
ما هى المتعة والسعادة التى تتحقق لهؤلاء المتطفلين بتتبع أحوال الناس تارة باسم القرابة أو الجوار أو الزمالة؟ تستطيع أن ترصد مئات وآلاف النقاشات التى تتم على جروبات الفيس بوك أو تطبيق الواتساب ويحتدم فيها النقاش حول أمور شخصية لسيدة ما أو رجل ما. أعرف فتاة تأخر بها سن الزواج لظروف دراستها ورعايتها لوالدتها وتأجيلها لفكرة الارتباط حتى تنتهى من استكمال رسالة الدكتوراة فى مجال تخصصها، لكن دوائرها الاجتماعية لم تتركها تعيش حياتها كما قررت لنفسها، كل يوم يصفعها السؤال الأبله (امتى هنفرح بيكى؟) وكأن الفرحة والسعادة مرتبطة ارتباطا شرطيا بالزواج فقط؟ ووصل الحال بها إلى أنها صارت تصلها شائعات وقصص وروايات وسرديات تحلل تأخر زواجها، حتى أصيبت باكتئاب حاد حقيقى ما زالت تتلقى العلاج والعون النفسى للخلاص من آثاره.
لا يقتصر الأمر على النساء وأحاديث النميمة بينهن، بل يدمن كثير من الرجال فى مجالسهم نفس الآفة ويجعلون من حياة الآخرين وخصوصيتهم مادة للتسلية وملء الفراغ.
بعض التفسيرات النفسية العلمية ترى أن الشخص الذى يدمن على انتهاك خصوصية الآخرين والتدخل فى حياتهم ولو بالتعليق عليها دون طلب منهم هو شخص غير سوى نفسيا ولديه معاناة نفسية كبيرة تخص حياته فيحاول تخفيف حدتها عبر التطفل على حياة الناس وإعطاء نفسه الحق بالتحول لوصى أو قيِّم على اختيارات الناس وتوجهاتهم.
هل من المنطق أن يصبح المجتمع قامعا للعواطف والمشاعر إلا إذا مرت عبر فلاتر تقييمه وتفضيلاته؟ هل يجب على من يحب أن يستأذن الناس أولا هل يحب هذه أم لا؟ هل يجب على من يتزوج أو يطلق أن يقوم بعمل استبيان رأى لمن حوله قبل اتخاذ القرار حتى لا يقومون بجلده على قراره وتدميره نفسيا بتدخلاتهم وسخافاتهم؟
***
نريد أن نحيا فى مجتمع سليم نفسيا ومتزن، مجتمع يقدس فيه الناس خصوصية الآخرين ويحترمون حقهم فى الاختيار، مجتمع يطبق الحكمة الرائعة (أحبنى أو اكرهنى لكن احترم خصوصيتى)، نريد أن نزرع فى وعى أطفالنا وفى ضمائرنا أن التدخل فى حياة الناس دون إذن منهم هو خطيئة، نريد أن تنتهى ظاهرة (التحفيل) على مواقع التواصل الاجتماعى ضد الناس بسبب اختياراتهم، وألا نشارك فى هذا القبح، بل نقوم بتجريمه أيا كان المستهدف منه، نريد أن تصغر دائرة انتهاك الخصوصية حتى يشير السواد الأعظم من الناس لمن يتورط فى ذلك بإشارات الاستهجان وتقبيح ما يفعل حتى يكف عنه ولا يراه شيئا لطيفا ولا طريقة للتسلية.
لا يحب أحد أن تكون حياته الشخصية مرتعا للقيل والقال، لكنه لا يتورع عن الخوض فى حياة الناس فى تناقض مذهل وازدواجية بائسة، هناك بيننا الآن مئات الآلاف من التعساء والمحبطين الذين لا تتغير حياتهم ولا تنتهى معاناتهم؛ لأنهم يخشون من سوط المجتمع ومن كلام الناس وهمزهم ولمزهم فيتقاعسون عن إصلاح حياتهم أو أخذ قرارات تعود عليهم بالسعادة؛ لأن المجتمع سينهشهم.
هذا يخشى من الطلاق وهذه تخاف من الارتباط بالشخص الذى تحبه وهذا عاجز عن تغيير مجال عمله وامتهان وظيفة جديدة فى مجال يحبه لكنه لن يروق لمن حوله، قس على ذلك أمثلة كثيرة يكون الطرف المعيق فيها هم الأهل أو الأصدقاء أو الأبناء أو الآباء والأمهات أو الأشقاء، يقرر الإنسان المظلوم استمرار ظلمه لنفسه والتعايش مع حزنه وبؤسه لأن هذه الدوائر حوله لن توافق على اختياراته ولن تدعمه فيها بل ستقوم بتأنيبه وجلده.
هذه الحياة نعيشها مرة واحدة، فلا نترك أحدا يقرر لنا شكل حياتنا، ولا نسمح لأى شخص مهما كان قربه منا أن يتولى رسم مساراتنا طبقا لهواه ورؤيته، فلنتحرر من الخوف ولنصفع المجتمع الذى يغلب عليه التشوه النفسى ولنحب من نشاء ونبغض من نشاء ونعيش مع من نشاء ونفارق من نشاء، نحن مسئولون عن تصرفاتنا ونتحمل عاقبتها وحدنا، الأوصياء لن يكونوا سندا لنا إذا تعثرنا ولن يفرحوا إذا تقدمنا، فلتتحرر نفوسنا من الأغلال البالية ولنقرر أن حياتنا واختياراتنا ملك لنا فقط.