متى تخاف الشعوب من التغيير؟
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 12 أكتوبر 2018 - 11:10 م
بتوقيت القاهرة
تشارك ثلاثتنا الحديث. هى روائية كينية تكتب باللغة الإنجليزية وتدرس فنون الكتابة الأدبية فى نيروبى، هو عالم ومعالج نفسى ألمانى يعمل فى جامعة سويسرية ويتخصص فى دراسة تداعيات الصدمات النفسية «التروما».
افتتحت هى الكلام بسؤال عما إذا كان التفاؤل بمستقبل الإنسانية قد صار شططا من خيال إزاء ما يحيط بشعوب كثيرة من قتل وعنف وتطرف وكراهية وفى وجه المصائر القاسية التى يتعرض لها أصحاب الرأى الحر من الصحفية البلغارية المغدورة فيكتوريا مارينوفا إلى الصحفى السعودى المختفى جمال خاشقجى. قالت إنها وإن أدركت كون التقدم العلمى والتكنولوجى يفتح آفاقا جديدة لإخراج بلايين الناس من الفقر ولتحسين الخدمات التعليمية والصحية التى يحصلون عليها ولعلاج الأوبئة المزمنة والأمراض المعقدة ولحماية مجتمعاتنا من أخطار الطبيعة والمناخ المتقلبين، إلا أنها لا تملك تجاهل ما يحيط ببلدان الجنوب فى الشرق الأوسط وإفريقيا من مذابح عرقية وحروب إقليمية وحروب أهلية وعمليات إرهابية وملايين الفارين من جحيم غياب الأمن والفقر والانفجارات العنصرية التى تعمق من عذاباتهم وجراحهم فى المنافى الغربية. ليس بالتقدم العلمى والتكنولوجى فقط تحيا الإنسانية وظواهر الاستبداد والدماء والعنف استوطنت بلدان الجنوب منذ آماد بعيدة ولن ترحل عنها قريبا، هكذا أفاضت فى تفصيل رؤيتها التشاؤمية ثم صمتت مديرة عينيها الواسعتين بيننا.
***
تداخل العالم والمعالج النفسى فى الحديث، فأفصح عن أصوله الألمانية الشرقية ووظفها للتدليل على أن أحوال المجتمعات دائمة التغيير وفرص خروج البلدان التى أنهكها الاستبداد أو تمكن منها العنف من أزماتها أبدا لا تنعدم. ذكرنا أن نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين شهدت من جهة استغلال بلدان أوروبا الشرقية والوسطى فرصا واتتها للخروج من عباءة الهيمنة السوفيتية وإنهاء حكم الأحزاب الشيوعية ونجاحها بالفعل فى فتح أبواب التغيير الديمقراطى واعتماد آليات الاقتصاد الرأسمالى، وتميزت من جهة أخرى بشيوع مناخات تفاؤلية فى عموم أمريكا الشمالية وأوروبا تلت سنوات التشاؤم فى أعقاب الارتفاع المذهل فى أسعار النفط فى السبعينيات والحروب بالوكالة التى خاضتها القوتان العظميان آنذاك الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى وسباق التسلح المحموم بينهما وكارثة المفاعل النووى الأوكرانى تشيرنوبيل فى ١٩٨٦ والانتشار السريع لمرض الإيدز الذى لم تتوافر له علاجات ناجعة. قال إن المناخات التفاؤلية تلك استعادت للغربيين الثقة فى مستقبل الإنسانية، وحفزتهم على الزهو بحكوماتهم الديمقراطية واقتصادياتهم الرأسمالية والعمل على نشر مبادئها وممارساتها عالميا وليس فقط فى بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، وشجعتهم على زيادة مساعداتهم التنموية للمجتمعات الفقيرة.
ثم انحسرت جرعة التفاؤل فى حديث الرجل ما أن ولى فكرة شطر الحاضر الذى تبدو به الديمقراطية متراجعة والرأسمالية مأزومة وتتقاذف به العنصرية والأفكار اليمنية المتطرفة بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، فقال إن استمرار مسارات التغيير الإيجابى فى مجتمعات البشر إنما يرتبط (من بين عوامل أخرى) بتعاملها الصريح والنقدى مع ماضيها (عقود ما قبل التغيير) واعترافها بخطاياها ونواقصها. لذا، وفقا للأمثلة التى ساقها، تمكنت جمهورية التشيك من بناء نظام ديمقراطى ورأسمالى متوازن وتجنبت (إلى اليوم) السقوط فى هاوية العنصرية واليمين المتطرف لأن حكوماتها المتعاقبة وجامعاتها ومسارحها ووسائل إعلامها أدارت نقاشا صريحا حول الماضى الشيوعى (١٩٤٥ــ١٩٨٩) وجرائم حكامه (قمع الانتفاضة الديمقراطية فى ١٩٦٨) وخطايا الأغلبية (التى صمتت على الاستبداد خوفا من القمع وطمعا فى الفتات الذى يلقيه المستبدون). نجحت جمهورية التشيك بتعاملها مع الماضى الشيوعى كصدمة نفسية جماعية تستدعى المصارحة والنقد الذاتى والمواجهة قبل أن تغلق الملفات، وفشلت بلدان كالمجر ورومانيا وبلغاريا وربما بولندا لأن رغبة الحكومات والنخب فى طى صفحات الماضى وتناسيها أسفرت عن ترك أسباب استبداد ما قبل ١٩٨٩ كامنة فى الحياة السياسية والاجتماعية وعجزت عن تفكيكها حتى تفجرت مجددا مستبدلة فقط تطرف اليمين الراهن بتطرف اليسار القديم.
***
جاء دورى، وكان بداخلى خليط استياء من اختزال سنوات نهايات الثمانينيات وبداية التسعينيات فى تحولات بلدان أوروبا الشرقية والوسطى وإعجاب بتشبيه الماضى الأليم للمجتمعات بالصدمة النفسية التى دون الاعتراف بها وعلاج تداعياتها قد يستحيل إنقاذ الحاضر وصلاح المستقبل. قلت إن مناخات التفاؤل فى الغرب لم يواكبها مناخات مشابهة خارجه ومسارات التغيير الإيجابى فى أوروبا تناقضت بالكامل مع انفجار الحروب الإقليمية والأهلية فى الشرق الأوسط وإفريقيا، ودللت على كلامى بالحرب العراقية ــ الإيرانية التى فرضت خرائط الدماء والدمار والخراب على البلدين بين ١٩٨٠ و١٩٨٨، وبغزو الديكتاتور صدام حسين للكويت فى ١٩٩٠ وما تلاه من حرب إقليمية لتحرير الكويت وانقلاب الديكتاتور المهزوم على شعبه وارتكابه مجازر كيماوية ضد الأكراد العراقيين فى الشمال والشيعة العراقيين فى الجنوب. أضفت أن الحروب الإقليمية والأهلية فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات لم تقتصر على الشرق الأوسط الذى شهد أيضا القمع الإسرائيلى الدموى والعنيف لانتفاضة الحجارة الأولى للشعب الفلسطينى، بل امتدت إلى بعض البلدان الإفريقية (من الحروب الأهلية فى الجزائر ونيجيريا إلى تداخل الأبعاد الإقليمية والأهلية فى حروب تشاد والكونغو «زائير سابقا» وإثيوبيا) ولم تتورع عن إسقاط بعض الضحايا فى أوروبا المنتشية بالتفاؤل (حروب ما بعد انهيار جمهورية يوغسلافيا السابقة فى البلقان).
ثم أعقبت التعبير عن الاستياء بتوظيف إيجابى لمرادفة العالم والمحلل النفسى للماضى الأليم مع الصدمة النفسية الجماعية والممتدة، مؤكدا على أن أغلبية بلدان الشرق الأوسط التى عانت إن من الحروب الإقليمية والأهلية أو عانت منها ومن الاستبداد ومصائره القاسية لم تتعامل بصراحة ونقد ذاتى مع خطاياها ونواقصها وتمترست تارة خلف خطابات الإنكار وتارة أخرى خلف فنون التناسى والإسقاط من الذاكرة الجمعية بغية الامتناع عن التغيير. وحين واتت بعض البلدان العربية فى ٢٠١١ فرصا للخروج من أزمات العنف والاستبداد وبدت حقيقة إمكانات التحول الديمقراطى، كبل الماضى الأليم وغير المعالج النخب والشعوب على حد السواء وأنتج لديها مخاوف وجودية من السقوط فى هاوية الفوضى والانهيار ما لم تتمسك بأهداب الاستبداد الجاثم على المجتمعات وانسحبت من التجارب الديمقراطية التى سرعان ما صورت زورا وبهتانا إما كمؤامرات خارجية تتطلب المواجهة أو أفعال صبيانية تستدعى السحق. تورطت النخب والشعوب فى إعادة إنتاج الاستبداد على الرغم من الفتات الاقتصادى والاجتماعى الذى يقدمه والحروب الإقليمية والأهلية التى يتسبب بها، ونصبت مجددا حكومات سلطوية قديمة ــ جديدة قائمة على أمرها خوفا من التغيير. قلت، وإزاء كل هذا يصعب التفاؤل بالحاضر والمستقبل وتفقد الرونق تلك النظرة الوردية لإنسانية التقدم العلمى والتكنولوجى المتجاوزة للأزمات.
***
اختتمت الروائية الكينية الكلام مثلما افتتحته، فأضافت عمقا تاريخيا لمرادفة الماضى الأليم مع الصدمة النفسية الجماعية مذكرة بكون البلدان الإفريقية لم تتعامل إلى اليوم بصراحة ونقد ذاتى لا مع الوقائع المفزعة للاستعمار الأوروبى فى القرنين التاسع عشر والعشرين ولا مع نتائجه التى دمرت آنذاك مقومات الحياة التقليدية واستغلت ثروات الشعوب الإفريقية وفرضت عليها حداثة مشوهة لم تطلبها. وحين رحل الاستعمار وتحقق التحرر الوطنى، هكذا قالت، مارست النخب والشعوب خليطا من إنكار الماضى وتناسى آلامه بغية النظر إلى الأمام وتعويض ما فات من تقدم وتنمية. غير أنها جهود التنمية والتقدم جاءت فى إطار دول وطنية رسم تكالب المستعمرين حدودها، ووظفت مؤسسات حديثة صنعها الاستعمار ولم تكتسب أبدا شرعية مجتمعية، وعولت على نظم تعليمية تنكرت لتاريخ الشعوب الإفريقية وهوياتها قبل الاستعمار وعتمت على وقائع ونتائج الاستعمار المفزعة. «واليوم تبدو القارة الإفريقية مكانا تعيسا لشعوب تنكرت لتاريخها وشوهت هوياتها وتنكر آلامها وتخترقها المرة تلو الأخرى خرائط الحروب والاستبداد والعنف!»