الخيال الجديد في تاريخ الجربعة والعصامية
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 12 أكتوبر 2021 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
هناك قلة من الكتب يمكن وصفها بـ«الكتب الذكية» والمقصود بها تلك الكتب التى تقلق راحة القارئ، وتدفعه للتفكير وإعادة النظر فيما حوله.
وأظن أن أسوأ الكتب، هى تلك التى تؤدى إلى استقرار العقل، بدلا من استفزازه، لأن مهمة الكاتب دائما هى مساعدة القارئ على اكتشاف مسارات جديدة ليدرك اتساع العالم.
وينتمى كتاب «تاريخ العصامية والجربعة، تأملات نقدية فى الاجتماع السياسى الحديث» للكاتب محمد نعيم لتلك الفئة من الكتب الذكية التى تقول للقارئ إن بوسعنا دائما أن نعيد النظر.
صدر الكتاب عن مركز المحروسة للنشر، مبشرا بميلاد كاتب متميز من الكتاب الذين أظهرت مواقع التواصل الاجتماعى قدرتهم على إنتاج الأفكار، والتعبير عن الخيال السياسى الجديد الذى تبلور قبيل ثورة يناير.
وعلى الرغم من أن معرفتى بالكاتب تعود لسنوات بعيدة، إلا ان الكتاب مثل لى مفاجأة سارة، ليس فقط على صعيد الأفكار التى يمكن تقبلها أو الاختلاف معها، ولكن بسبب الأسلوب الفريد فى طريقة العرض والتحليل، فقد اختار اللغة البسيطة المدهشة التى لا تخلو من السخرية وتستطيع ادهاش القارئ بفضل قدرتها على اعادة الاعتبار لما يمكن تسميته بـ«المجاز اليومى».
يقدم الكتاب مراجعة شجاعة لبعض مظاهر التاريخ الاجتماعى المصرى خلال قرنين على الأقل، ويرى المؤلف أن سؤال اجتماعنا
المشترك أصبح على المحك، معتبرا ان وجودنا كله هو وجود ملتهب، لأننا غير متوافقين على أشياء كثيرة وهناك صراعات فى دوائر كثيرة مكتومة أو معلنة، سواء على مستوى طبقات المجتمع وفئاته المهنية أو على صعيد علاقة الرجل بالمرأة فى الأسرة وخارجها.
يسعى الكتاب إلى تأمل الأشياء والأفكار التى شكلت إرثنا الاجتماعى وأفكارنا التى نعيش عليها وبالتالى فهو متوجه بالأساس للنظر فى رحلة المجتمع المصرى مع الحداثة عند بداية القرن الـ19 انطلاقا من مفهومين، الأول: هو العصامية، بمعنى السعى المتواصل لتحسين الاوضاع المعيشية استنادا على فضائل أساسية صاغت هذه التحولات، والمفهوم الثانى: هو الجربعة الذى يجسد علاقات اجتماعية سلطوية تعبر عن نفسها فى سلوك وممارسات نفسية واجتماعية ساهمت فى غرس قيم الرداءة والانحطاط والعدمية فضلا عن المساهمة فى تآكل قيم العصامية ذاتها أو احتقارها.
وأهم ما يكشفه الكتاب عند قراءته فى ظل السياق المحيط هو التأكيد على الدور الفاعل الذى لعبه التعليم فى تحقيق القفزات الكبرى فى مجتمعنا وكيف انه كان الجسر الذى اختاره المصريون للعبور من الفقر إلى النعمة كما انه ساعد على اعادة تعريف الانتماء.
ويؤرخ الكتاب بذكاء مدهش لمسارات صعود وهبوط المفهومين، فى ضوء الأحداث الكبرى فى تاريخ مصر الحديث وكيف أنه يتم بناء تقييمات لأحداث فاصلة مثل الموقف من الملكية أو من الضباط الأحرار وكذلك التجربة الناصرية أو الساداتية انطلاقا من الصلة بالمفهومين وهو ما يؤدى إلى أزمات كثيرة تتمثل فى اعادة انتاج الأزمات وتنامى فكرة عدم رضا المواطن المصرى عن نفسه
والتورط فى حالات الاستلاب الثقافى، التى شكلت تصورات الناس عن حياتها.
وِكذلك يحاول الكتاب تأمل ممارسات داخل المجتمع وبعضها اميل إلى العنصرية سواء نظرة المصريين لألوان بشرتهم، أو عبر تعاملهم مع اللهجات المحلية كاشفا كيف تسعى البورجوازية المصرية الجديدة لتمييز نفسها طبقيا عبر استعمال لغة خاصة والعزلة فى مجتمعات سكنية مغلقة، كذلك يتناول ما يسميه «ذاكرة الفقر والجوع» لدى فئات أخرى وما تخلفه هذه الذاكرة من ممارسات اجتماعية ومأثورات جديدة.
ويدرس الكتاب كذلك السيولة المجتمعية، التى اتضحت فى تشكل محطات وأفكار هجينية وينتهى بمراجعة لربع القرن الاخير
والسنوات التى اعقبت ثورة يناير وما نجم عنها من أزمات تخص العملية التى يسميها نعيم «اعادة التأسيس الاجتماعى والسياسى» داعيا لتفكيك الايديولوجية المهيمنة.
وفى ظنى أن أجمل ما فى الكتاب يتعلق بالروح المتحررة التى يكتبه بها المؤلف، فهو يضرب بعمق فى أسس الأفكار التى تربى عليها ويذهب بفضل خياله الجديد نحو إنتاج «جدارية فكرية لامعة من جداريات «النقد الثقافى» وبطريقة تجعل كتابه أحد أذكى محاولات التعبير عن الخيال الجديد الذى يحتاج لوقفة متأملة ومتمهلة من قبل الباحثين المختصصين فى علم الاجتماع السياسى.