سيرة امرأة عظيمة

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 12 أكتوبر 2024 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

آمنت دومًا بأن التقاء ثقافتين وعالمين يصنع حياة أكثر غنى واكتمالًا، قد يبدو الأمر صعبا وغير مريح فى البداية، ولكن سرعان ما يجد الطرفان مساحات مشتركة للتواصل، خاصة إذا كان الحب هو الأساس، وخاصة إذا كان سحره هو زاد الرحلة، ونور الطريق.
آمنتُ أيضًا بأن الكتابة حياة جديدة، وإعادة اكتشاف للكاتب، مثلما هى اكتشاف للقارئ، نحن نعيد بعث البشر والذكريات والأماكن عندما نكتب، نتأمل أفضل وأعمق، بل نتصالح أكثر من آلامنا، نستشفى بالحروف وبالكلمات، نرى الذات والآخر على الورق، فنعرف بالعمق، وليس عبر السطح، نخرج من المشهد، ونعيد إخراجه، وترتيبه، ونعيد تشكيل الزمن، فنرى الأمس بعين اليوم.
وجدتُ هذه الأفكار فى صورتها المثلى فى كتاب «الخواجاية»، الصادر عن دار الشروق، لمؤلفته فيمونى عكاشة، والذى تستعيد فيه سيرة أمها الهولندية جيردا، التى تزوجت من مهندس النسيج المصرى أنور عكاشة.
أسلمت جيردا، وأنجبت «فيمونى» وأخوين لها، عاشت فى مصر سنوات طويلة، ودفنت فى ترابها، أتقنت اللغة العربية، وأسَّست بيتا وعائلة، تنقّلت مع زوجها وأسرتها من مديرية التحرير إلى المحلة الكبرى، وصولًا واستقرارًا فى القاهرة، ورغم اندماجها الكامل فى الحياة المصرية، فإنها حملت لقب «الخواجاية»، شكلها الأجنبى جعلها مختلفة، وأطلقوا أيضًا على فيمونى، باسمها الغريب، ومظهرها المختلف، لقب «ابنة الخواجاية».
ما جعل من هذه السيرة عملًا ممتازًا، ليست التفاصيل التى تتشارك فيها جيردا مع أجنبياتٍ كثيرات تزوجن من مصريين، ولكن بالأساس بسبب قدرة فيمونى على رسم ملامح أم عظيمة وقوية الشخصية، بحيث بدت جيردا نموذجًا إنسانيّا يستحق الكتابة عنه، ثم الانتقال إلى خطوةٍ أهم وأعمق، وهى رسم ملامح عصر وزمن ومدن، سواء فى لحظات الاستقرار والثبات، أو فى لحظات التحول والتغيّر، وبالتالى يقودنا الخاص إلى العام، وإلى الإنسانى جدّا أيضًا.
الكتاب ليس صوت جيردا فقط، ولكنه صوت جيردا عبر فيمونى، لسنا هنا أمام مونولوج مستمر بصوت جيردا، كما هو الحال فى سيرة عظيمة أخرى معروفة هى «المولودة» لنادية كامل، ولكن فيمونى تصنع صوتًا يعلّق ويتدخل ويربط بين حكايات جيردا، فالابنة تحكى أيضًا عن حياتها وظروفها، وتحاول أن تكتشف الاختلاف والاتفاق، ماذا أخذت وماذا تركت من صفات الأم؟ وتحاول فيمونى أن تفكك مصطلح «الخواجاية» بين جيلين، وتتأمل طوال الوقت فكرة الاندماج عبر زمنين.
تمتلك التجربة ثراء واضحًا، ثراء بحجم عائلة أسرة جيردا الهولندية التى احتفظت بكل الأوراق والخطابات، والتى عانت من ظروف الحرب العالمية الثانية القاسية، فعرفت قسوة الجوع، وعرفت نعمة الطعام، وثراء بحجم شخصية جيردا نفسها، عازفة التشيللو، وابنة القرن العشرين التى قررت أن تترك أسرتها، لتعمل مربية أطفال فى بريطانيا، ومن هناك تتعرف على أسرة مصرية، وتأتى معها إلى مصر، لرعاية طفلتها، فتتعرف على قريب الأسرة أنور، وتبدأ معه مغامرة جديدة.
الثراء بحجم حكاية الحب بين جيردا وأنور: شاب مصرى مستنير، هو أيضًا ابن زمنه، وابن عبد الله عكاشة، أحد مؤسسى فرقة عكاشة المسرحية، وابن الممثلة القديمة اليهودية فيكتوريا موسى، جعل أنور الحب شرطًا للزواج، وكانت جيردا الحبيبة الموعودة، ولكنه لم يتزوجها إلا بعد خطاب طويل أرسله لوالدها (فى الكتاب صورة الخطاب)، وعد فيه بإسعاد جيردا، والحرص على زيارة هولندا معها كل عام.
الثراء أيضًا بحجم تحديات جيردا فى مواجهة الغربة، وإصرارها على أن تتعلم اللغة العربية، وأن تتحدث لأولادها بتلك اللغة، ولكنها، فى نفس الوقت، كانت شديدة الاعتزاز بوطنها الأصلى، ولم تجد تعارضًا أبدًا بين أن تحتفظ بالثقافتين، وكان الاختيار والإخلاص هما عنوان رحلتها، سواء فى هولندا أو فى مصر.
لم تسر الحياة على موجة واحدة، فقد عرفت جيردا ظروفًا صعبة، بعد موت زوجها، وعاصرت أحوال البلد المضطربة، خاصة فى سنوات الحروب أعوام 56 و67 و73، ولكنها نجحت فى ترويض الغربة، ونجحت فى الاندماج، مع الاحتفاظ بالهوية، عاشت حياتين معا، وأخذت من كل مكان أفضل ما فيه، ومنحت كل مكان أفضل ما فيها.
الحقيقة أننا لم نر فقط جيردا بمفردها، ولكننا رأينا جيردا أخرى معاصرة فى صورة ابنتها «فيمونى»، ربما كان سؤال الاندماج أسهل فى إجابته عند فيمونى، لأنها نشأت وتربت فى مصر، ولكن تعبير «ابنة الخواجاية» كان يعيدها من جديد إلى فكرة الاختلاف، كما أن اسمها الذى اخترعه والدها اختراعا من دمج انتقائى بين اسم جدتها الهولندية، واسم خالتها الهولندية، جعلها مرة أخرى مختلفةً، إلا أن فيمونى كامرأة مستقلة، عوّدتها أمها على أن تحل مشكلاتها بنفسها، عالجت مشكلاتها، وتحملت أيضًا مسئولية اختياراتها.
كتابة فيمونى عن جيردا جاءت فى لحظة مهمة ومناسبة، لا قبل ولا بعد، لحظة نضج فارقة، فقد أصيبت جيردا فى سنواتها الأخيرة بعدة جلطات فى المخ، جعلتها فى حالةٍ من التيه، تخلط بين الأشخاص، ولا تستطيع أن تكمل حكاياتها أو عباراتها، تتوهم مؤامرات ضدها من خادمتها، وتغادر بيتها فى منتصف الليل، ولكنها لم تنسَ أنور، حبيب عمرها، ولم تنس أجمل ذكرياتها.
جاء الكتاب كاستعادة كاملة لذاكرة الأم الضبابية، كهدية من الابنة لأمها ولزمنها المفقود، وجاء أيضًا كاكتشاف من الابنة لقدراتها ككاتبة، ولعلاقتها العميقة مع أمها، وربما كانت الكتابة أيضًا مواجهة للذات واختياراتها، عبر سيرة الأم.
الكتابة بعثٌ جديدٌ أكثر خلودًا وبقاء، والفصل الأخير من الكتاب فى قوته وتأثيره، خلاصٌ من الألم بمواجهته، ومحاولة لاكتشاف سر الرحلة وعنوانها، أو كما تقول فيمونى فى السطور الأخيرة، عما تعلمته من سنوات أمها الأخيرة:
«علمتنى ألا يطول حزنى على شىء، وأن الحياة جديرة بالبهجة».
أحسب أن روح جيردا سعيدة؛ لأن ابنتها دوّنت المغامرة الإنسانية العظيمة، ولأنها نطقت بلسان الأم المتعثر، ولأنها حفظت الحكايات والصور، وبعثتها من جديد.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved