جنة فاطمة.. عاشقة الضوء

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 12 أكتوبر 2024 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

تجيد فاطمة الطنانى صنع قطع مصغرة من الجنة. تجلس معها فى حديقة منزلها الصغيرة التى تشرف بنفسها على تنسيقها، فتجد نفسك محاطا بأشجار وزهور وحمام وببغاوات وُضِعت فى أقفاص من تصميمها وقطط تتحرك بحرية وكلبتها الشقية الشيواوا، لوزة، تحاول أن تستأثر بانتباهها. كذلك هو الحال بالنسبة للأعمال الفنية المختلفة التى أبدعتها بواسطة الزجاج المعشق على مدار خمسة وعشرين عاما، قبل أن تتوقف عن نشاطها وإغلاق ورشتها عام 2012، فيمكن اعتبار بعض زخارفها النباتية نماذج لما يمكن أن تكون عليه الفراديس فى الحضارات المختلفة، مزيجا من القوة والنعمة الإلهية والجمال الخالص. تقول فى سيرتها الذاتية التى صدرت أخيرا عن دار نشر بعد البحر، تحت عنوان «مشوارى»، أنها وزوجها المهندس أحمد هشام يجيدان الاستمتاع بالحياة وممتنان لها. ونحن بالفعل أمام شخصين فى العقد السابع من العمر، متصالحين مع الواقع بكل تعقيداته، يحاولان العيش بهدوء بعد تقاعدهما، مكتفين بالسفر والقراءة ودائرة الأصدقاء وبعض الاهتمامات المحببة لديهما.
كتبت مذكراتها لمشاركة تجربتها مع من يشبهونها فى الإعاقة الجسدية ويحاولون التغلب عليها. وهى تبدأها بمحاولتها الانتحار وهى سن فى الرابعة عشر حين ابتلعت عدة أقراص من الأسبرين لأنها لا تحتمل ألا تمشى مثل بقية أخواتها، ولكن يسبق روايتها لتلك الحكاية الحزينة تمهيد وجيز يلخص قصة نجاحها رغم الصعوبات التى فرضتها عليها ظروف ولادتها بقدمين معوجتين مع خلع فى الحوض وضمور فى عضلات الساقين، نظرا لأن أختها التوأم كانت تنمو فوقها داخل رحم الأم. سبق توطئة المؤلفة، مقدمة غزلها الكاتب الكبير محمد المخزنجى بشفافيته المعهودة، وهو صديق قديم للثنائى الرائع فاطمة وهشام، كما يناديهما الأصحاب. تحدث فيها المخزنجى عن انبهاره بهذا الجبروت النبيل الذى يميز فاطمة الطناني، الفنانة الرائدة فى مجال الزجاج المعشق التى عملت لسنوات كمهندسة معمارية ودرست الطاقة الشمسية السالبة فى التصميم، أى الطاقة التى تعتمد على الاتجاهات الأربعة الأصلية، دون استخدام أى نوع من أنواع الوقود، ففى البلاد الحارة مثلا يكون الاتجاه الأساسى هو الشمال، والحوائط أو الأسطح تكون عبارة عن أنابيب مليئة بالماء، تقفل أبوابها نهارا وتفتح ليلا، وهو ما كان مطبقا فى منازل النوبة منذ آلاف السنين.
• • •
محاولة الانتحار تلك كانت أول إنذار لأمها، السيدة صفية الخولي، بضرورة الالتفات إلى الحالة النفسية لابنتها، لذا اصطحبتها إلى الدكتورة زينب الغتيت التى كانت هى الأخرى حالة فريدة فى تحدى الظروف، إذ كانت مصابة بشلل الأطفال وزوجها يحملها إلى العيادة على ذراعيه. شكلت هذه الزيارة علامة فارقة فى حياة المراهقة، فكلماتها لاتزال محفورة فى قلبها وذاكرتها: «أنتِ مختلفة عن الآخرين، وهذا شيء جميل، لقد اختصك الله بهذا الأمر.. الإنسان شكل ومعنى: الشكل المادي، قابل للهلاك، أو للتدمير، أما المعنى الذى يأتى من القلب والعقل معاً، فهو شىء أزلى وخالد». تقول فاطمة: «لقد أخذتنى هذه الطبيبة إلى الضوء»، وهى نقطة مهمة فى مشوارها، فهى فنانة تشكيلية عاشقة للضوء، طالما سعت لاصطياده وتشكيله وتلوينه عبر الزجاج المعشق، وقد تعلمت أن تصادق وحدتها وتتأقلم مع آلامها، وأدركت مبكرا إمكاناتها العقلية الهائلة وتحديدا قدرتها على الإبداع والتركيز الشديد، وقررت أن تمتص الفرح بكل طاقتها، «أما الحزن فدائما ما كنت أتركه حتى يذوب وينتهى من تلقاء نفسه».
هذه الروح الجميلة كانت محاطة بأرواح أخرى لا تقل جمالا، جعلتنا نكتشفها من خلال حكاياتها.. أحببنا جارهم فى شقة الزمالك «أونكل إسماعيل» الذى كان يمدها بالقصص والروايات لتأخذها إلى عوالم أخرى وتحررها من القيود، والكاتب يوسف السباعى الذى رغم شغله لمنصب وزير الثقافة ظل يراسلها وبعث لها بسيارته لكى تأتى للقائه فى مكتبه حين حدثته فى أحد الخطابات عن تأثرها بنادية، بطلة روايته الشهيرة. أما الدكتور منيسى فقد كان أول من شخص حالتها بدقة وقام بعدة عمليات لتقويم ساقيها وقدميها، وقد بدأت رحلتها الشاقة مع الجراحات المعقدة وهى فى عمر الشهرين، ثم توالت المغامرات الطبية التى قادتها إلى سيبيريا حيث دخلت إلى المستشفى فى ضيافة اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السوفيتى وقام الطبيب بتركيب جهاز غير آدمى لتطويل الساق عن طريق كسر العظام دون تخدير كامل.
• • •

نتابع على هذا النحو خطوات فتاة منذ أن كانت فى مقتبل العمر تنتقل من بلد إلى بلد، تجد نفسها تارةً ملقاة على ظهرها لا تستطيع الحركة، وتارةً أخرى تسافر مع أختها «أوتوستوب» إلى عدة مدن أوروبية. فى لندن، تعمل نادلة فى مطعم أو موظفة كاشير ليلا ومهندسة معمارية فى الصباح. تلتحق بشركة كبرى مثل دار الهندسة ومقرها بيروت. تفقد أختها الأصغر وتعتنى بابنها حتى يكبر ويسافر للدراسة فى إنجلترا. وخلال كل هذه الإنجازات، كانت دوما هناك عائلة محبة تدعمها وتشد من أزرها. نقدر والدها مهندس البترول الذى توفى باكرا، ونعجب بعلاقته بوالدتها ومواقفه الوطنية والمبدأية فى الحياة. نحب تفاصيل هذه العائلة المصرية التى تنتمى للطبقة الوسطى ونعود إلى «زمن الرقة» كما تسميه، فهى تعلم أنه من خلال وصف حياة أسرتها الهادئة فى رأس غارب أو فى القاهرة وملامح بيتهم الذى ساده المرح، هى ترسم صورة لأحوال هذه الشريحة الاجتماعية التى تنتمى لها، ولمصر مختلفة استطاعت الاحتفاظ بروحها رغم الأزمات السياسية والهزيمة. تروى فى خضم كل هذه الأحداث كيف تعلمت فن الزجاج فى مطلع الثمانينيات وصارت أول امرأة تمتهن هذا المجال، بل هى أول فنانة مسلمة يوكل إليها تنفيذ شبابيك الكاتدرائية المرقسية بالعباسية. تستعرض الطنانى فى نهاية الكتاب بعض المقتنيات الخاصة من تصميمها وأماكن تواجدها، كما تتناول تجربة تطوعها، بعد إغلاق ورشتها، لتدريب الأطفال من ذوى الاحتياجات الذهنية على الرسم لكى تساعدهم على الاندماج فى المجتمع.
مشوار طويل نقطعه معها باستمتاع، ونعود كثيرا إلى البيت والحديقة وحب الحيوانات الأليفة وبعض العادات التى ورثتها عن والديها، وقد نتعرف على المزيد من التفاصيل خلال حفل توقيع ومناقشة الكتاب يوم الأحد 13 أكتوبر، بجاليرى مشربية، فى السابعة مساء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved