فى أثر توفيق الحكيم! (1)

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 12 أكتوبر 2024 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

شهر «أكتوبر» من الشهور الحافلة بذكرى ميلاد ورحيل أسماء كبيرة فى تاريخنا الفكرى والثقافى، كان لها قيمتها ومنجزها وتأثيرها واسع المدى؛ ولا يهمنى هنا فى هذا السياق أن أعدِّد أو أحصر ما وقع فى أكتوبر، إنما أكتفى بالإشارة إلى أنه الشهر الذى شهد رحيل عميد الأدب العربى طه حسين (1889-1973)، وهو الشهر أيضًا الذى ولد فيه رائد ومؤصل فن المسرحية فى الأدب العربى الحديث توفيق الحكيم (1898-1987)، الذى دائمًا ما كان تبهرنى قدرته العظيمة على «التأثير» فى كل من يقرأ له!
اكتشفتُ توفيق الحكيم مبكرًا فى مجموعته القصصية «أرنى الله».. ما أجملها وأعذبها! ثم كان تعرفى على مسرحيته الخالدة «أهل الكهف».. إذا لم يكن هذا هو «الفن العظيم» فأى فن يكون.. البساطة المتناهية، والدقة فى صياغة الحوار وانتقاء الكلمات، إدارة الحوار والصراع وصولًا إلى ذروته والقارئ يلهث فضولًا وشغفا!
عدد كبير من الشهادات التى جمعتها على مدى سنوات طويلة تؤكد عمق وجوهرية هذا التأثير ومداه!
لولا توفيق الحكيم ما حسم نجيب محفوظ قراره فى الانحياز للفن واحتراف الأدب. لم يترك نجيب محفوظ فرصة أو مناسبة لم يعلن فيها امتنانه الكبير لتوفيق الحكيم وأنه هو الذى وضعه على أول طريق الكتابة والفن عمومًا!
(2)
تجاوز توفيق الحكيم كل تلك الأدوار والمهام والمسئوليات التى أداها كأحسن ما يكون وأبرع ما يكون، إلى كونه صار ملهمًا وفاتح طريق لجيلٍ بارع من أجيال الأدب والإبداع والعطاء الثقافى والفكرى فى القرن العشرين، لعل أبرز تلاميذه وألمعهم وأكثرهم نبوغا وحضورًا وتفوقًا نجيب محفوظ الذى قال عن الحكيم نصا: «لولا الحكيم ما أدركتُ معنى الفن.. ولا ماهيته وجماله».. وقال عنه أيضًا: «هو الوحيد الذى ارتبطت به وجدانيا وروحيا وعشت معه سنوات طويلة كظله». وحينما مات رثاه قائلًا:
«لن أنسى ما حييت كيف غمر حياتنا الأدبية، بين يومٍ وليلة، مفاجأة مثيرة سعيدة بلا مقدمات، فجلس على العرش متوجًا بتسليم وترحاب، مؤيدًا بمبايعة عمالقة العصر كله، واعترافهم بعبقريته وتفرده. منذ ذلك التاريخ فى الثلاثينيات تحول مجرى حياتنا الأدبية من النقد والتاريخ والتعريف إلى «الفن الخالص» بجامع رونقه وجماله وفلسفته.. آمنا بكل يقين أن الأدب ليس الشعر وحده، ولو كان شعر شوقى وحافظ ومطران، وأن المسرحية والرواية والقصة تستطيع أن تسمو إلى مدارج الشعر وسماواته، وأن تمد القلب والعقل بضياء الفن وعمق الفكر ومتعة الروح»..
(3)
وغير نجيب محفوظ كثيرون جدّا أكدوا على ذات التأثير وعمقه وجذريته.. سواء بقراءة مسرحياته ورواياته وقصصه، أو كتاباته الغزيرة الأخرى فى الشأن الأدبى والثقافى والسياسى والاجتماعى.
والناقد القدير محمود عبد الشكور فى كتابه الرائع «كنت شابا فى الثمانينيات»، يقر أيضًا بأن توفيق الحكيم هو صاحب الأثر الأكبر فى حبه للأدب والفن، بعد أن قرأ فى وقتٍ مبكر، مسرحيته «أهل الكهف» فى مكتبة أبيه، وبعد أن أعجبته مسرحية قصيرة فى كتاب المستوى الخاص للغة العربية فى السنة النهائية من المرحلة الثانوية، وكانت بعنوان «نهر الجنون».
يقول عبد الشكور «شغل الحكيم الدنيا منذ ظهوره فى الحياة الأدبية حتى وفاته، كان مؤسسة مستقلة، وظلت أخباره فى المستشفى الذى نُقل إليه مثار متابعة شبه يومية»..
ويؤكد عبد الشكور أن الحكيم وهب حياته كلها لمشروعه الأكبر، وهو تأصيل الأنواع الأدبية الحديثة فى تربة الثقافة العربية الحديثة، وبالأخص فى فنى المسرح والرواية؛ راد فن المسرح بمسرحيته «أهل الكهف»، وعُدّ بين مؤسسى الرواية العربية الحديثة برائعته «عودة الروح».
(4)
ومن الأجيال المثقفة الأحدث سنّا الكاتب والمؤرخ الشاب حسن حافظ الذى كتب أسطرًا رائعة فى اكتشاف الحكيم وأثره وتوجيهه الكبير فى بدايات تعرفه على القراءة والكتابة عمومًا، يقول (بتصرف طفيف):
«أعتبره من وجوه كثيرة أهم أديب أثّر فى. هو أول أديب حقيقى أقرأ له، وعلى يديه حصلت النقلة من قراءة أعمال نبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق إلى الأدب الحقيقى، وعلى يديه تعلمت حرية التفكير والمناعة ضد دجل الفكر والسياسة. تشربت أسلوب الحكيم السهل الممتنع، وكتبت مسرحيات على منواله، ثم مزقتها مع الاحتفاظ بواحدة كذكرى».
الحكيم هو من أخذ بيد حسن حافظ إلى عوالم الأدب، وكانت فرحته مضاعفة بأنه من عرفه على طه حسين، ونجيب محفوظ، وغيرهما.. «أنا مدين للحكيم بالكثير، فأى شىء حققته فهو شريك أساسى فيه».
وينصح حسن حافظ أى شخص يريد أن يبدأ فى قراءة الأدب أو يكتسب سلاسة فى الأسلوب بأن يبدأ بأدب الحكيم، مختتما: «لا يحتاج إلى نوبل لكى نحتفى به ونكرسه فى ثقافتنا المعاصرة».
رحم الله توفيق الحكيم الذى كان فنانًا خالصًا، فنانًا من شعر رأسه حتى قدميه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved