عملية سطو على مذكرات بديع خيرى

شعبان يوسف
شعبان يوسف

آخر تحديث: الجمعة 12 نوفمبر 2010 - 11:04 ص بتوقيت القاهرة

 سالمة ياسلامة
روحنا وجينا بالسلامة
صفَّر ياوابور واربط عندك
نزلنى فى البلد دى
بلا أمريكا بلا أوروبا
مافيش أحسن من بلدى
دى المركب اللى بتجيب
أحسن من اللى بتودِّى

ليست هذه فقط إحدى مئات الطقاطيق والأغانى التى أبدعها شاعر مصر العظيم بديع خيرى، فالشعب المصرى ينشد وينسحر ويتطماوس تحت مظلة هذا الشاعر الخالد، والذى يكاد يكون الآن طى النسيان، كلنا نترنم ب«قوم يا مصرى، وصبح الصباح فتاح يا عليم، وياواش ياواش يا مرجيحة، ويهون الله يعوض الله، والحلوة دى قامت تعجن فى الفجرية... إلخ، وغيرها من ابداعات بديع، لكن لا يكاد أحد يعرف مؤلفها، ولا سيرته، ولا كيف نشأ، وكيف بدأ الكتابة، وكيف أعلن عن نفسه من خلال اكتشاف الفنان نجيب الريحانى له، أكبر ظلم أن تؤانسنا تلك الأغانى وهاته الطقاطيق دون أن نقرأ الفاتحة.. فقط.. على روح منشئها العظيم بديع خيرى.

أخيرا صدرت الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الكبير الراحل عن دار ميريت، جمع وتحقيق ودراسة د. نبيل بهجت، وتقديم د. نجوى عانوس، وبالطبع كانت هناك تمهيدات كثيرة قبل ذلك متناثرة جمعت أشعار وأغانى بديع خيرى، إلا أن هذا الجهد يستحق التحية، وأظن أن هذه الأعمال صدرت بالاشتراك مع «الجزيرة للنشر والتوزيع».. وتتصدر الأعمال الشعرية دراسة للجامع، يوضح فيها كيفية الجمع، وطريقة البحث، لأن تراث بديع لم يكن كله منشورا باسمه، أى أن هناك جهدا طيبا بذله الباحث فى جمع هذا التراث، وإن كانت دراسته كانت تحتاج إلى توسع فى الحديث عن حياة بديع خيرى، وتطوره، وهناك جاءت الدراسة دون هوامش، وهذا يسبب خللا فى المراجعة للقارئ.. على أية حال يشكر كل من ساهم فى إخراج هذا العمل إلى النور، ولولا بعض الأخطاء المطبعية لجاء العمل كاملا متكاملا.

لا يمكن تخيل تطور وجدان المصريين فى القرن العشرين، دون قراءة بديع خيرى، ودون تأمل المعانى التى كان يطرحها فى كل ما كتبه، فلا أظن أنه ترك ظاهرة، أو حدثا سياسيا، أو اجتماعيا، أو كارثة قومية، أو فسادا وزاريا، إلا وتطرق إليه وكتب عنه، وكانت أشعاره تتكدس بالتحريض والتمرد، خاصة أن بديع خيرى كان قد انتمى إلى جماعة كفاح مسلح فى بداية عمره، أى أن الوطنية لم تكن هوى عابرا، بل كانت عقيدة ثابتة فى وجدانه، عبر عنه فى مئات الأغنيات والأشعار والطقاطيق.. وكان يهاجم الظواهر الفاسدة، ويقوم بعملية تجريس للطغاة.. فمثلا عندما انضم أحمد محمد خشبة، إلى الأحرار الدستوريين وكان وزيرا للحقانية، وصادر روزاليوسف المجلة فى عام 1927، فكتب بديع وقام بتجريسه بزفة شعرية يقول فيها:

عين الحسود فيها ماشا يا تُلتميِّت ملليله
على سى خشبة باشا بقاله لون يا حليله
وحزب يا حلاوه واتلم وأتاوه
ويكتب فى أحمد لطفى السيد مهندس وزارة محمد محمود الحديدية الديكتاتورية قالا:
يا فيلسوف الجامعة ياغاوى شرح أرسطو
فى إيدك امسك شمعة وقول عشان ينبسطوا
شويش ياجوقنا الليلة ياباكى سان ستيفانو
شويش ياحزب الميله يامن عضاه اندفنوا
ويستطرد أيضا عن لطفى السيد:
أنا اللى ضيعت حياتى ما بين أرسطو وبين جوسفاف
أنا الأديب الأدباتى أنا فيلسوف بائع فلساف!
لكن مفيش زى حالاتى واحد غلب فى الدنيا وشاف
الفلسفة طلعت متشوش والجامعة طارت بخسارة..

إذن كان بديع خيرى فزاعة للفاسدين، والطغاة، والدكتاتوريين، ومخالفا لهم، والذى يراجع أشعاره سيجد أنه المعبر الأول عن الوجدان المصرى، والذى أنشد له سيد درويش أجمل أغانيه، ولحن أرق وأقوى كلماته، وهنا أود أن أشير إلى أن الباحث نسب نشيد «بلادى بلادى» إليه، وهو فى الحقيقة حوله التباس، ويقال إن مؤلفه الأول هو محمد يونس القاضى ولكن سيد درويش هو الذى طوره، أى أن بديع خيرى ليس له علاقة بنشيد «بلادى بلادى»، وبعد سيد درويش كان رفيق كفاحه ورحلته الفنية نجيب الريحانى، وأبدعا سويا شخصيات ومسرحيات مثل «خليك تقيل» و«هز ياوز» و«كشكش بك فى باريس» و«قولوا له! وإش!، ولو!، وغيرها عشرات المسرحيات التى لاقت قبولا جماهيريا كبيرا، ولكن أيضا عانى الاثنان الكثير، وبارت بضاعتهما، ووجدا تحديات كثيرة، كادت تصل بهما إلى التوقف.

ولأن الفرحة لا تكتمل دوما، فحدثت عكارة لم أكن أتوقعها، فعندما رحت أبحث فى أرشيفى عن سيرة حياة بديع خيرى، لأستكمل الفراغات والمساحات الغامضة، وعن تدقيق بعض المعلومات التى وردت فى الكتاب، والنصوص المنشورة، لأن هناك نصوصا ملتبسة كما أسلفنا فى مسيرة بديع خيرى الفنية، ولم يتم التحقق من نسبتها يشكل قاطع، فعدت إلى مقالات ودراسات وببلوجرافيات تناولت أعمال بديع خيرى، كذلك عدت إلى مجلات قديمة خاصة الكواكب فى أزمنة صدورها المختلفة منذ أواخر الأربعينيات وإن كان هناك إصدارات أسبق ثم الخمسينيات، حيث نشر بديع بعض نصوصه ومقالاته، ثم الستينيات، ومجلات الهلال التى كان يخصها بين الحين والحين ببعض ما يكتب مثل مقاله المهم:

(كيف كتبت مرقص وكوهين)، والجدير بالذكر كان يكتب بعض نصوصه المسرحية مع رفيق رحلته نجيب الريحانى، وفى أثناء رحلتى البحثية هذه، عدت إلى مذكراته التى صدرت فى المجلس الأعلى للثقافة عام 1996 بمناسبة الندوة التى عقدها المجلس لمرور ثلاثين عاما على رحيله، والمذكرات، كما جاء على الغلاف من إعداد وتحقيق إبراهيم حلمى، وعندما قرأت مقدمة المعد والمحقق لم أتبين كيف حصل المحقق على هذه المذكرات، ولم أجد أدنى ذكر لذلك، ولكننا نقرأ تقديما قصيرا يبدأه المحقق: «هذه المذكرات قطعة حية من تاريخ الفن المسرحى المصرى الحديث، يراها القارئ لأول مرة فى هذا الكتاب، ويراها القارئ كاملة لأول مرة أيضا، إذ إنها نشرت فى لبنان ناقصة أربعة فصول كاملة.. أقدمها للقارئ فى هذا الكتاب الذى ينشر فى مصر فى كتاب لأول مرة»..

وتحيرت: كيف حصل المحقق على هذه المذكرات؟.. ولكننى لم أحتر كثيرا، فتذكرت وأنا أتصفح المذكرات أننى طالعتها من قبل، ولكن فى شكل آخر، فعدت إلى ذاكرتى هذه الذاكرة النكدة وقلابة المواجع وكاشفة للآلام فاكتشفت مفاجأة كانت مذهلة، وهى أن هذه المذكرات منشورة بالكامل فى مجلة الكواكب على مدى ستة عشر عددا، بدأت فى 2 يوليو 1963، أى بداية من العدد 622، ومن إعداد وتقديم الكاتب الصحفى محمد رفعت، الذى ذهب إلى بديع خيرى، وحصل منه على هذه المذكرات، والجدير بالذكر أن بديع خيرى هو الذى كتب مقدمة هذه المذكرات قال فيها: «لولا صداقة محمد رفعت، ولولا نفوذ وسلطان هذه الصداقة ما كنت كتبت مذكراتى هذه أبدا، فنظرتى إلى المذكرات من خلال نظرة الناس إليها وكأنها دعاية لصاحبها، وصراحة تغضب، وتثير المشاكل والمتاعب، وما أغنانى عن كل هذا، وأنا أختم اليوم سنتى الخامسة والأربعين من عمرى كمؤلف مسرحى، وأوثر أن يُضحك قلمى الناس إلى آخر نسمات حياتى كما عاش دائما، وألا يغضبهم يوما، ولكن سامح الله الصداقة، صداقة محمد رفعت، وسامح محمد رفعت، وليعنِّى الله على الحديث فى هذه المذكرات بصراحة وصدق عن تاريخ صرحنا العربى من خلال عمرى الفنى، حوالى نصف قرن، وعن فرسان هذا التاريخ وفرسانه، سيد درويش الصريح، وداود حسنى الكتوم، ونجيب الريحانى الفنان الهادئ، والأخوة عكاشة المتحاسدين والمتضاربين، وعزيز عيد مدمن الفن، وعلى الكسار الساذج الذكى، ومنيرة المهدية الكريمة الطيبة القلب، وزكريا أحمد صاحب القلب المفتوح.. إلخ».

وبديع خيرى صادق تماما فيما يقول، فهناك الكثيرون بالفعل الذين ألحوا عليه لإملائه مذكراته، أو حتى الإدلاء ببعض معلومات عن حياته فكان يرفض، وكان يقول دوما: فنى هو الذى يقدمنى، وعندما كتب الأستاذان حسين مظلوم رياض ومصطفى محمد الصباحى كتابهما الشهير: «تاريخ أدب الشعب»، فكانا يصدران أشعار وابداعات الشعراء بموجز عن حياتهم، ولكنهما كتبا عن بديع خيرى: «وقد طلبنا إليه معلومات عن ترجمة حياته فاعتذر، وهو من الزجالين الممتازين، أصدر مجلة ألف صنف، فظهرت فيه مقدرته الهائلة على الكتابة والنظم ووضع روايات تمثيلية حازت اعجابا واقبالا كبيرين»، وصدر هذا الكتاب عام 1936، أى أن بديع خيرى كان عازفا عن كتابة مذكراته منذ زمن بعيد.

وهناك تقديم آخر للناقد الفنى سعد الدين توفيق رئيس تحرير مجلة الكواكب آنذاك يقول فيه: «مرة ثانية يعود محمد رفعت فيسجل خبطة صحفية بارعة، فقد بذلت بعض الصحف والمجلات منذ عدة سنوات محاولات عديدة للفوز بمذكرات الفنان الأديب الكبير بديع خيرى، وقد فشلت كل هذه المحاولات، لم يكن الفشل سببه الاختلاف على مسائل مادية، أو فنية، وإنما كان بديع يعارض فى نشر هذه المذكرات أصلا، ولكن محمد رفعت لا يعرف اليأس، وإن قراء المصور يذكرون ولاشك تحقيقاته الصحفية البارعة، إننى لا أهنئ محمد رفعت على فوزه بالحصول على هذه المذكرات، وإنما أهنئ الكواكب وقراء الكواكب بهذا النصر الصحفى الكبير».. إذن نحن أمام سطو كامل وعلنى وصريح، فالأستاذ إبراهيم حلمى أصدر حكما بإعدام ونفى صاحب الحق الرئيسى فى الحصول على هذه المذكرات، وأطلق عليه الرصاص، وحذفه مع عميق الإصرار والترصد، وجلس مكانه، ويا له من جلوس فاضح وفادح.. ورغم أن الكتاب صادر منذ عام 1996 فإن السرقات لا تسقط بالتقادم، والسكوت عنها هو تواطؤ معها، وتمرير لها وتأكيد عليها، فصاحب التحقيق المسروق ليس شخصا عابرا، بل هو مقدم برامج بالتليفزيون المصرى، وعضو بالمجلس الأعلى للثقافة، وحائز على جائزة الدولة التشجيعية، ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى، كما هو مثبت فى الببلوجرافيا، وله مؤلفات فى التراث الشعبى، أتمنى ألا تكون شبيهة بمذكرات بديع خيرى.

الجدير بالذكر أن المسئولين فى المجلس آنذاك وكان أمينه الدكتور جابر عصفور، لم يسألوا المحقق كيف حصل على المذكرات، وهو سؤال عملى ومشروع، فالرجل رحل منذ سنوات بعيدة، وخاصة أن المحقق كما ذكرت لم يذكر أدنى معلومة عن كيفية حصوله على ذلك.
ولا يسعنا هنا إلا أن نعود لبديع خيرى العظيم.. وننشد معه:
فوق يامصرى مصر دايما بتناديك
خذ بنصرى نصرى ديما واجب عليك
رد مجدى قبل ما يضيع من ايديك
اوعى سعدى يروح هدر قدام عينيك

رحم الله الشاعر العظيم بديع خيرى الذى وزع نفسه فى شعراء الموجة التالية، ونجد أثره كبيرا عند صلاح جاهين، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم، على وجه الخصوص.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved