خالص العزاء لأهالى شهداء الجريمة الإرهابية التى وقعت على الكنيسة وعلى المصلين الآمنين وعلى مصر، والدعاء لاهالى المصابين بالشفاء العاجل، وللمصريين جميعا بالسلام والوئام وتجاوز هذا الظرف العصيب.
الظرف عصيب بالفعل والألم كبير والعواقب وخيمة. ولكن إن كان الهدف من جريمة يوم الأحد الأسود هو تفتيت وحدة الشعب المصرى ودفعه إلى الاحتراب الداخلى وإثارة الفتنة بين صفوفه، فإنه هدف لن يتحقق بل سيُصبِح أبعد منالا. فلا هذه الجريمة ولا غيرها يمكن أن تفتت أواصر وحدة وطنية صقلتها آلاف السنوات من التاريخ والعيش المشترك، أو تمس بنيان مجتمع اعتاد أفراده على تحمل السراء والضراء جنبا بجنب.
الغاضبون مما جرى معهم الحق، والذين وجهوا سخطهم على الاعلاميين والسياسيين والمسئولين والدولة لهم العذر بسبب ما تعرضوا له من صدمة وألم ومصاب. ولكن ليس هذا وقت العتاب ولا الحساب ولا توجيه الاتهامات الجزافية ولا البحث عن كبش فداء ولا تحقيق مكاسب سياسية واعلامية على حساب الشهداء، بل وقت التكاتف وتجاوز المِحنة، والاهتمام بالمصابين وبأهالى الضحايا. أما الحساب والعتاب والعقاب فلهم وقتهم وهو آت لا محالة، ولكن يجب أن يسبقه كشف الحقيقة والتعرف على ما جرى وعلى من قتل ومن ساعد ومن حرض ومن هيأ الظروف ومن قصر فى أداء واجبه.
وقوع هذه الجريمة الإرهابية داخل ساحة الكنيسة وفى وقت الصلاة ضاعف من وقعها ومن صدمة الناس بها. وبهذا المعنى فإنها جريمة طائفية لأن المستهدف بها المسيحيون المصريون والغرض منها شق الصف الوطنى وإثارة الفتنة. ولكن إن كان الدافع وراء الجريمة طائفيا فبيدنا نحن المصريين ــ مسلمين ومسيحيين ــ أن نرفض اعتبارها كذلك، بل نعتبرها جريمة فى حق كل الشعب بمختلف مذاهبه وطوائفه، واعتداء على حرية العقيدة المكفولة للمواطنين جميعا، وتدميرا لموقع تاريخى فريد يعبر عن حضارتنا المشتركة، وترويعا للآمنين فى هذا الوطن دون تفرقة. إذا تمسكنا بذلك وبأننا جميعا مستهدفون وكلنا أصحاب مصلحة فإننا نكون قد نجحنا فى احباط جوهر المخطط الإرهابى وفى حماية وحدتنا الوطنية. ولنتذكر أن الارهاب لا يميز بين الديانات ولا العقائد ولا الثقافات، وإن ضحاياه من أبناء الوطن لم يقتصروا على مذهب ولا طبقة، بل طال الجميع دون تفرقة، آخرهم ضحايا ثلاثة أحداث ارهابية فى الأسبوع الماضى وحده، كلهم شهداء وكلهم قدموا أرواحهم فداء للوطن وكلهم يستحقون التقدير والدعاء بالرحمة.
بيدنا أيضا ألا نكتفى بالمشاهدة والحسرة والغضب، بل يمكن لكل واحد أن يأخذ موقفا عمليا وايجابيا يعبر به عن مشاعره. فالتضامن لا يكون بمجرد التواجد فى المستشفى أو التبرع بالدم، بل بعشرات المبادرات والأفعال والتصرفات ولو كانت رمزية. الاتصال التليفونى عمل ايجابى، وكذلك الاطمئنان على الأصدقاء والأقارب، وعرض المساعدة والدعم المعنوى، والتواصل بكل الأشكال حتى من خلال رسائل هاتفية وإلكترونية، كل هذه أمور ليست ثانوية ولا هى بلا قيمة، بل قيمتها فيما تحمله من معانى التضامن والاخوة التى نحتاجها فى هذه الأيام العصيبة.
وبنفس القدر فإن العواطف الجياشة التى تنطفئ بعد قليل غير كافية، بل يجب التمسك دون تخاذل أو ضجر بقيم المواطنة والمساواة واحترام حرية الآخرين وعقيدتهم ودور عبادتهم، ويجب الاستمرار فى السعى نحو بناء مجتمع أكثر عدالة ورحمة وتماسكا، والاصرار على اقتلاع جذور العنف والارهاب والتطرف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وليس مجرد التعامل مع آثارها البغيضة والتغاضى عن أسبابها.
***
ختاما، فقد سنحت لى الفرصة كثيرا لزيارة مجمع كنائس العباسية وبخاصة الكاتدرائية المرقصية الرئيسية، أحيانا لمناسبات شخصية وعائلية، وكثيرا لمناسبات عامة، فى أعياد الميلاد والقيامة، وفى جنازة شهداء ماسبيرو، وفى فترة الحكم الإخوانى، وفى المرتين التى حضر فيهما رئيس الجمهورية، وفى جنازة البابا شنودة الثالث، وفى تنصيب البابا تواضروس الثانى، وفى كل مرة شعرت أن حضورى ومن معى كان محل تقدير وترحيب ومصدرا للفخر والاعتزاز لنا ولمن استقبلونا بكل حفاوة. أما الكنيسة الأصغر المجاورة لها، البطرسية التى تعرضت للارهاب امس الأول، فقد شاءت الظروف أن احضر فيها خلال العام الماضى وحده جنازة علمين مصريين بارزين، الدبلوماسى والقانونى د. بطرس غالى، ورجل الصناعة والعمل العام د. مكرم مهنى، وقد تذكرتهما واسترجعت جمال وقيمة هذه الكنيسة الصغيرة أثناء متابعة عمليات الإنقاذ على شاشة التلفزيون. هذه الكنيسة ذات التاريخ العريق لن تكون أبدا رمزا لانتصار الارهاب ولا لتفرق الشعب المصرى أو انكساره، بل سوف تكون رمزا لكل ما نحلم به لهذا الوطن، حرية وعدالة ومساواة ووحدة لا ينال منها الأعداء.