برلين برلين
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الثلاثاء 13 يناير 2015 - 7:45 ص
بتوقيت القاهرة
عام مر دون التمكن من القدوم إلى برلين التى كانت مدينتى لسنوات طويلة. منذ أيام قليلة، وأنا دائم التجوال فى شوارعها وأحيائها، بين مقاهيها ومسارحها الكثيرة.
«ما أروع أن تنظر إلى شفاه الألمانيات، وهى تنطق بلغة تبدو للغرباء عصية على المشاعر الرقيقة والأنغام الموسيقية فتحيلها إلى حالة جمالية ممتدة ومبهرة».. جملة كهذه قرأتها منذ سنوات فى رواية الأديب الهولندى كيس نوتوبوم (Cees Nooteboom) عن برلين «كل الأرواح»، وربما اختزنتها ذاكرتى ببعض الإضافات، إلا أننى ما زلت على انبهارى! هن يحيلن اللغة بالفعل إلى حالة جمالية ممتدة، ثم تأخذك الألمانية إلى عالم واسع من طرح الأفكار والتعبير الدقيق والنقاش الموضوعى، ولا تتعثر خطاك بين الجمال والموضوعية إلا فيما ندر وتحبطك فى حدود مقبولة تدخلات الرجال.
أذهب إلى حى كرويتسبرج (Kreuzberg) فى غرب المدينة، حيث سكنت لسنوات ببال هادئ وبذهن مستمتع بالقرب من نساء ورجال شاركوا فى الثورات الطلابية فى نهاية ستينيات القرن الماضى (1968)، واحتفظوا بيساريتهم الإنسانية والمتسامحة وبحبهم للحرية وللتمرد وبرفضهم للتورط فى أنماط الحياة الاستهلاكية وفى اللهاث وراء المادة. أذهب فى 2015، وبعد انقطاع طال عن عام المنع من السفر، إلى حى اليسار الذى دوما ما أبهر بتنوع ديانات وأعراق ولغات ساكنيه وبغياب خوفهم من الآخر بل وبرغبتهم الصريحة فى الانفتاح عليه، لأجد مكانا مختلفا.. رحلت لأسباب عديدة أغلبية رفاق اليسار، وابتعدت أيضا عائلات من أصول تركية وكردية وعربية وآسيوية متنوعة لارتفاع القيمة الإيجارية للوحدات السكنية، وغاب طلاب الجامعات البرلينية، الذين بحثوا فى كرويتسبرج التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة عن إعادة اكتشاف خبرات اليسار القديم والسير على خطاهم فى التسامح وحب الحرية. ومحلهم جاء شباب المهنيين من إسبانيا والبرتغال واليونان وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا وغيرها من البلدان الأوروبية، الذين تجتذبهم سوق العمل الألمانية لحيويتها المستمرة، وتمكنوا بقدراتهم المالية الأفضل من طرد سكان كرويتسبرج «الأصليين»، وقضوا أيضا على طبيعة المكان واصطنعوا منه حيا استهلاكيا عاديا لا يتمايز عن غيره من أحياء المدن الغربية.
فى المسرح الألمانى (Deutsches Theater) فى وسط المدينة، أستمع فى أمسية أدبية إلى مشاعر ومداخلات بعض الفنانات والفنانين الألمان وبعض الكتاب والصحفيين عن أوروبا بعد تجدد الإجرام الإرهابى فى حواضرها.. مذبحة شارلى إيبدو. الجوهر هو الدفاع عن حرية الإبداع والفكر والتعبير عن الرأى والخوف عليها، الجوهر هو إدانة الإرهاب القاطعة دون جمل فرعية والانتصار القاطع أيضا لحقوق الإنسان والتحذير من الانزلاق إلى طغيان الأمنى على القانونى كما انزلقت الولايات المتحدة الأمريكية بعد 11 سبتمبر 2011، الجوهر هو رفض العنصرية ورفض الاتهامات المسبقة والمعممة باتجاه العرب والمسلمين، إلا أن الجوهر هو أيضا الإدراك الواقعى لكون الحركات والشبكات العنصرية قد تتصاعد حدتها فى الفترة المقبلة وقد تضيف إلى أزمات الحياة التى تواجهها مجموعات المواطنين والمقيمين ذوى الأصول العربية والإسلامية، وهو أيضا البحث عن تفسيرات موضوعية لظهور إرهابيين أوروبيين جدد (الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وظروف حياة العرب والمسلمين) ولاستمرار انفجارات الإجرام الإرهابى فى بلدان العرب وحدود علاقتها بالإرهابيين الأوروبيين الجدد.
أغادر المسرح محملا بذات إنسانى وفكرى ولغوى رائع، وأغبط الألمان مجددا على مجالهم العام الناضج بحريته وتعدديته ورشادته وبثقته فى حيوية المجتمع المدنى وفى سيادة القانون ومسئولية السياسة والدولة بعد أن أحبطنى يوم كرويتسبرج واكتساح الأنماط الاستهلاكية والقدرات المالية لإنسانية اليسار، التى دوما ما أبهرتنى دون أن تدفعنى إلى تغيير القناعات الليبرالية.