رأى واحد باسم الديمقراطية
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 13 يناير 2017 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
ليت الترويج للرأى الواحد يقتصر على صناع وخدمة السلطوية الجديدة فى مصر. فقد اعتاد الناس على ادعاءات احتكار الحقيقة المطلقة وامتلاك الحق الحصرى للحديث باسم الوطنية الصادرة عن نخبة الحكم (من مسئولين وإعلاميين)، وتحرر كثيرون من تأثيرهم الفاشى على وقع الفشل فى علاج الأزمات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة وبسبب تورط مؤسسات وأجهزة الدولة فى انتهاكات مفزعة للحقوق والحريات.
والشاهد هو أن صناع وخدمة السلطوية الجديدة لم يبق لهم سوى القليل من المصداقية العامة، وصار بحث المواطن عن المسكوت عنه من معلومات وحقائق وعن روايات بديلة للرواية الرسمية يكتسب يوميا المزيد من الأتباع.
●●●
ليت الترويج للرأى الواحد ولفاشية إسكات الآخر المعتاشة عليه يقتصر على صناع وخدمة السلطوية الجديدة (طيور ظلام المرحلة). فالخروج الجماعى من المصيدة التى أعدوها للناس فى صيف ٢٠١٣ بات وشيكا، ومحاولات تداول المعلومات والحقائق المغيبة رسميا من خلال شبكات التواصل الاجتماعى يشتد عودها بانتظام. لدينا اليوم، على سبيل المثال، كشوف موثقة بأسماء المختفين قسريا والمحبوسين احتياطيا والعمال المحالين إلى المحاكم العسكرية والطلاب المفصولين من جامعاتهم لأسباب سياسية. الكشوف هذه، والفضل فى إعدادها يرجع إلى المنظمات الحقوقية ومبادرات الدفاع عن الحريات التى رفضت الخضوع لتهديدات الأجهزة الأمنية ولم تفت فى عضدها الإجراءات القمعية المتلاحقة، تنهض دليلا صارخا على حدوث الانتهاكات وتراكمها وتسقط جدار الإنكار والصمت الذى شيدته السلطوية وما لبثت تتعلق به.
يتجاوز الترويج للرأى الواحد الصفوف البائسة لصناع وخدمة السلطوية، ومن أسف يسرى فى مصر اليوم بين دعاة الديمقراطية والمطالبين بالحقوق والحريات سريان النار فى الهشيم. يخرج نفر منهم على الناس بأفكار وأطروحات لمواجهة السلطوية يعرضونها كمسلمات لا يأتيها الباطل عن يمين أو شمال، وآخرون يكسون حديثهم بلغة إطلاقية وحادة تلغى وجود من يتفقون معهم فى الهدف ويختلفون على الطريق.
فهذا لا يرى سوى فى حراك العمال والشباب والطلاب السبيل الأوحد لاستعادة مسار التحول الديمقراطى على الرغم من عنفوان الآلة القمعية الرسمية والكلفة الشخصية الباهظة التى يتحملها المشاركون فى الحراك، ويصم بالجهل أو التهافت من يعولون على منظمات المجتمع المدنى غير المستتبعة أمنيا والنقابات المستقلة والقليل المتبقى من كوادر حزبية نشطة لتعرية السلطوية وكشف انتهاكاتها وتوفير قدر من الحماية المؤسسية لمقاوميها.
وذاك يطرح التعايش مع السلطوية كطريق الحد من الممارسات القمعية واحتواء الأزمات المتراكمة، ويزعم إمكانية الدفع التدريجى لنخبة حكمها باتجاه تبنى سياسات رشيدة وتنفيذ إجراءات إصلاحية وإشراك بعض من معارضيها وممن هم خارج صفوفها فى إدارة الشأن العام دون أن يسمى الحقائق الحاضرة الآن أو المتوقعة غدا والتى من شأنها تحفيز السلطوية على تغيير المسار الذى تكره عليه المواطن والمجتمع والدولة منذ ٢٠١٣ بتوحش بالغ.
وثالث، شأنه شأن صناع وخدمة السلطوية، يدعى امتلاك الحق الحصرى للحديث باسم الوطنية ويوظف مقولات شعبوية مضادة للرأى الواحد القادم من على ومناوئة للشعبوية المروجة حكوميا لكى يصنع لذاته صورة «البطل البديل» حامل أختام النقاء الوطنى والثورى. و«المدافع الصلد» عن «جموع الشعب» لا يعنيه من قريب أو بعيد كونه يفرض الصمت على الناس ويلغى وجودهم كأفراد وينفى اختيارهم الحر فى استخدام نسق استبدادى يتطابق كليا مع النسق المستخدم للدعاية للبطل الرسمى.
وهناك رابع يعمد إلى التشويه الشخصى لشركاء الدعوة إلى الديمقراطية حين يختلفون مع أفكاره وأطروحاته التى يراها صوابا خالصا أو يبدون له كمنافسين على ما يصنفه هو كمواقع قيادية وجماهيرية. يفعل ذلك دون تقدير للعواقب بالغة الضرر لتهديد جماعية المواجهة الصعبة مع السلطوية، دون اعتبار للمكونات القيمية والأخلاقية للدفاع عن الحقوق والحريات التى تلزم باحترام الرأى الآخر والامتناع عن التورط فى تسفيهه واغتيال أصحابه معنويا، دون نظر لخطر التصارع الداخلى بين دعاة الفكرة الديمقراطية لجهة الحد من فرص الأخيرة فى حصد شىء من القبول الشعبى.
●●●
وليت أمر أولئك يتوقف فيما خص الترويج للرأى الواحد عند حدود عرض أفكارهم وأطروحاتهم كمسلمات لا تقبل الجدل فى المضمون والتحليل، ناهيك عن الخطأ فى الوجهة النهائية. فذلك لهم، إن أرادوا وطالما ارتضوا المطالبة بالديمقراطية بأدوات غير ديمقراطية (تلك الحالة العجيبة وممتدة الوجود فى مصر وبلاد العرب والتى وثقها الكتاب الرائع «ديمقراطية من دون ديمقراطيين» الذى حرره الأستاذ غسان سلامة فى بداية الألفية الجديدة). إلا أنهم وبسبب اللغة الإطلاقية والحادة التى يستخدمونها يرتبون نزع مصداقية أفكار وأطروحات آخرين يبحثون عن خروج من السلطوية ويرجون انفتاحا على سياسة حديثة مكوناتها حكم القانون وتداول السلطة واحترام الحقوق والحريات، غير أنهم يختلفون مع «ديمقراطيى الرأى الواحد» إن فيما خص السبل المقترحة لمواجهة السلطوية أو لجهة تقدير قناعات ومصالح وحدود رشادة نخبة حكمها.
ولأن المختلفين مع ديمقراطيى الرأى الواحد يمتنعون عن استخدام اللغة الإطلاقية ويمقتون ادعاء احتكار الحقيقة مقتهم للمقولات الشعبوية، فإنهم يخرجون على الناس بحديث به من التساؤلات ما يفوق الإجابات وأفكار جزئية وأطروحات لا تدعى امتلاك الحل الشامل وإعمال مستمر لمشرط النقد الذاتى. ويصبحون من ثم، وعلى الرغم من اتساقهم مع الطبيعة النسبية والتعددية للديمقراطية، محدودى المصداقية والقدرة الإقناعية فى نظر معارضى السلطوية والباحثين عن روايات بديلة لروايتها الذين يسهل اجتذابهم من قبل ديمقراطيى الرأى الواحد بلغتهم الإطلاقية ومقولاتهم الشعبوية.
●●●
والأخطر هو أن الترويج للرأى الواحد بين المواطنين المعارضين للسلطوية الجديدة فى مصر يسهل للغاية من مهمة نخبة الحكم لاستعادتهم إلى قطيعها المؤيد إن عبر استخدام لغة إطلاقية أشد حدة (المرادفة الفاسدة للمعارضة بالخيانة والتآمر) ومقولات شعبوية أكثر فجاجة (الادعاء المتهافت بكون تعاليم الدين ومبادئ الوطنية الحقة تلزم بطاعة رئيس الجمهورية والاصطفاف خلفه كالبنيان المرصوص). هنا جوهر المأزق الذى يضعنا به ديمقراطيو الرأى الواحد، ومصدر انتقاصهم من فرص تعافى الحركة الديمقراطية المصرية.