أوروبا بين الحربين.. بعض من شواهد ما مر
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 13 يناير 2023 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
بين نهاية الحرب العالمية الأولى فى ١٩١٨ وبداية الحرب العالمية الثانية فى ١٩٣٩، مرت شعوب أوروبا بتحولات متسارعة ومتناقضة تتشابه إلى حد مخيف مع ما تشهده اليوم القارة العجوز.
• • •
بين ١٩١٨ و١٩٣٩، ولأن الحرب العالمية الأولى رتبت انهيار إمبراطوريات آل عثمان (الدولة العثمانية) وآل هابسبورج (الإمبراطورية النمساوية المجرية) وآل هوهنتسولارن (حكام المملكة الألمانية) وأورثت الأراضى الواسعة لروسيا القيصرية لدولة جديدة يحكمها حزب شيوعى تماسكت سلطته بعد فترة انتقالية مرتبكة من ١٩١٧ إلى ١٩٢٩ (الاتحاد السوفييتى) وأضعفت اقتصاديا وماليا وسياسيا وعسكريا بريطانيا وفرنسا اللتين انتصرتا فى الحرب بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية، كانت أوروبا مسرحا واسعا لتشكل دول قومية جديدة ولصعود تيارات سياسية عنيفة ولتفجر صراعات عسكرية فى مواضع مختلفة.
بين الحربين العالميتين، تشكلت دول قومية فى البلقان الذى تحرر من خليط الاستعمار العثمانى والاستعمار النمساوى المجرى، وفى المساحة الواقعة بين أراضى روسيا القيصرية ــ الاتحاد السوفييتى من جهة وبين الحدود الغربية للإمبراطورية النمساوية المجرية السابقة والحدود الشرقية للمملكة الألمانية التى خسرت أراضيها فى وسط أوروبا من جهة أخرى. بين الحربين أيضا، صعدت التيارات السياسية العنيفة أقصى اليمين وأقصى اليسار فى عموم القارة الأوروبية واجتذبت لتأييدها قطاعات شعبية واسعة. لم تكن الأحزاب الشيوعية والحركات الفاشية العنيفة قوية ومؤثرة فى ألمانيا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا والدول الجديدة فى البلقان ووسط أوروبا وحسب، بل كانت حاضرة أيضا فى بريطانيا وفرنسا وإن واجهتها فى البلدين أحزاب يمين الوسط المحافظة وأحزاب يسار الوسط العمالية والاشتراكية. بين الحربين أخيرا، اشتعلت المواجهات المسلحة على الحدود بين بقايا الإمبراطوريات المنهارة والدول الجديدة وكثرت التدخلات العسكرية من قبل جيوش أرادت حكوماتها إما ضم أراضٍ خاضعة لسيادة دول أخرى فى الجوار المباشر (الحروب التركية اليونانية وحروب البلقان نموذجا) أو التدخل لدوافع أيديولوجية وسياسية لحسم صراعات وحروب أهلية فى دول بعيدة عنها (تدخل النازيين الألمان لدعم القوى الفاشية فى الحرب الأهلية الإسبانية مثالا).
فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كانت مشاهد التظاهرات والمسيرات الحاشدة لليمين الفاشى وللشيوعيين فى المدن الأوروبية، بل وحروب الشوارع بين مناصرى التوجهين وبينهم وبين قوات حفظ النظام والأمن، دائمة التكرر مثلها مثل الأماكن العامة والصالات المغلقة الممتلئة بجماهير تنتظر حضور زعماء الفاشية والشيوعية لإلقاء الخطب النارية والتحريضية. كانت مشاهد الإضرابات العمالية واحتجاجات مصابى الحروب وأسر الضحايا والمفقودين غير غريبة على مدن أوروبا شأنها شأن الاغتيالات السياسية وتوظيف العنف ضد الآخر السياسى (من الفاشيين تجاه الشيوعيين وفى الاتجاه العكسى كذلك) وضد الأقليات الدينية والعرقية واللغوية. تواترت أيضا أزمات الحكومات المنتخبة وكثرت الانتخابات المبكرة والاستثنائية التى دفعت تدريجيا بالتيارات العنيفة والراديكالية والمتطرفة إلى قلب الساحات السياسية على النحو الذى نجح معه الفاشيون والنازيون وفى بلدان مختلفة فى الوصول إلى مقاعد السلطة عبر صندوق الانتخابات والتى لم تكن الحالة الألمانية سوى نموذجها الأكثر كارثية فى نتائجه على ألمانيا وأوروبا والعالم.
ومع تطور الصحافة ووسائل الإعلام بين الحربين، باتت أخبار التظاهرات والإضرابات واللقطات المصورة للحروب والمواجهات المسلحة والاغتيالات ومشاهد عودة الجيوش من المعارك وخروج الفقراء والمحرومين إلى الشوارع والميادين بحثا عن النجاة تتناقل أوروبيا لتصنع بين عموم الناس حالة من القلق والترقب والخوف من المستقبل لم يستفد منها سوى دعاة العنف والتطرف. ووجدت الحالة الأوروبية هذه ترجمة لها فى العديد من الأعمال الفنية والأدبية، من لوحة بابلو بيكاسو عن الحرب الأهلية فى إسبانيا «جرنيكا» والأعمال الأدبية لماكس فريش وفرانتس كافكا اللذين كتبا بالألمانية ونقلا بوضوح الروح القلقة لفترة ما بين الحربين إلى مسرحيات برتولت بريشت وموسيقى كورت فايل ذات الجماهيرية الطاغية فى البلدان الناطقة بالألمانية.
• • •
مثلما اتسمت فترة ما بين الحربين العالميتين سياسيا بتحولات سريعة جسدها كل من انهيار الإمبراطوريات وتشكل دول جديدة وصعود الفاشيين والشيوعيين وتسببهم فى حروب وسباقات تسلح، وتميزت فكريا وثقافيا بسطوة العنيف والراديكالى والمتطرف على الفضاء العام ووعى الناس وتراجع شعبية الأفكار الوسطية (يمينا ويسارا)، وشهدت اقتصاديا واجتماعيا أزمات متتالية ارتفعت بسببها معدلات الفقر والبطالة والتضخم والاستدانة (للدول والأفراد) وتعاظمت معها الإضرابات والاحتجاجات إلى أن انهارت مكونات أساسية من المنظومة الاقتصادية العالمية وخيم الركود على البلدان الكبرى (١٩٢٩) ؛ تميزت عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين بتطور علمى وتكنولوجى هائل كان يصنع صورة عالم مستقبلى مختلف عن كل ما عرفته البشرية من قبل وبتقدم مبهر فى وسائل التنقل بين القارات والمحيطات والدول وفى الربط بينها على نحو كان يصنع أيضا صورة لعالم جديد لم يعهده البشر من قبل. وفى السباقين، سياق العلم والتكنولوجيا وسياق التنقل عبر الأماكن وترابطها، بدت ظواهر شديدة التناقض مع ما كانت له الغلبة سياسيا وفكريا ومجتمعيا.
فى استفادة مباشرة من الابتكارات العلمية والتكنولوجية التى سعت إليها الجيوش المتحاربة فى الحرب العالمية الأولى، بدأت المجتمعات الأوروبية فى تطوير صناعتها وزراعتها وأساليب الرعاية الصحية الشائعة بها لتحقق طفرة كبيرة مقارنة بأحوالها فى القرن التاسع عشر والسنوات المبكرة للقرن العشرين. تطور صناعة المحركات وصناعة الحديد والصلب والصناعات البترولية فى بريطانيا وألمانيا والاتحاد السوفييتى السابق، تطور الزراعة أوروبيا ثم عالميا باختراع وبداية الإنتاج الواسع للأسمدة فى العشرينيات والثلاثينيات، تطور صناعة اللقاحات والدواء وطرق الكشف بالأشعة وأساليب الجراحة وبدايات الطب النفسى؛ جميع تلك التطورات كانت تغيرا جذريا وسريعا من واقع حياة الشعوب الأوروبية والعالم من حولهم. استفادت المجتمعات الأوروبية أيضا من التقدم الكبير الذى أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى فى وسائل التنقل والربط، من السفن والطائرات ومحركات القطارات والسيارات الأقوى والأسرع إلى خطوط التلغراف والتليفون التى كانت قد بدأت آنذاك رحلتها حول الكرة الأرضية. وقد كان للتنقل بين الأماكن والربط بين القارات والمحيطات والبلدان انعكاسات متنوعة على أوروبا التى شهدت من جهة ارتحالات داخلية كثيرة بين الشرق والغرب فى العشرينيات والثلاثينيات، وتكثفت هجرات قطاعات واسعة من سكانها الفقراء والمحرومين إلى العوالم الجديدة فى أمريكا الشمالية واللاتينية وفى أستراليا، جاء إليها من خارجها طلاب علم وفكر وثقافة وفن من العالم القديم فى أفريقيا وآسيا ومن العالم الجديد، وصارت بعض عواصمها الكبرى خاصة برلين وباريس ولندن مدنا عالميا (وذلك هو المعنى الحرفى لصفة كوزموبوليتانية التى عادة ما تلى الإشارة إلى العواصم الثلاثة فى فترة ما بين الحربين).
• • •
هكذا كان حال أوروبا فى العشرينيات والثلاثينيات، وهكذا كانت التناقضات بين تحولاتها السياسية التى سيطر عليها الراديكاليون والمتطرفون وبين التقدم العلمى والتكنولوجى الذى كان يصنع عالما مغايرا ويكتسب فى ساحات الفكر والثقافة والفن حضورا متزايدا. هكذا كانت تناقضات يوميات العواصم والمدن الأوروبية الكبرى، بين مسيرات للفاشيين والشيوعيين أصحاب الشعارات البدائية ومشاهد للفقر والاحتجاج وبين مسارح ودور للعرض السينمائى ومتاحف تفخر بالعلم والعلماء والتكنولوجيا الحديثة والحريات الجديدة التى كان الناس يكتسبونها (كالتنقل السريع) مثلما تستهجن بدائية الراديكاليين والمتطرفين وتنشر الإيمان بتجاوز الأزمات الاقتصادية والاجتماعية عن طريق المعرفة العلمية القادرة على كل شىء وتنتشى بقرب تحرر كل العالم من الفقر والجهل والعنصرية والاستعمار الذى كانت أفكار حق تقرير المصير ووحدة الجنس البشرى تواجهه فى أوروبا وخارجها.
هكذا كان برميل البارود الأوروبى بين ١٩١٨ و١٩٣٩، وهكذا وبمكوناته هذه انفجر ليغير العالم بين ١٩٣٩ و١٩٤٥. واليوم فى ٢٠٢٣، وبعد عقود من انهيار الإمبراطورية السوفييتية فى تسعينيات القرن العشرين، تتشابه أوضاع أوروبا على نحو مخيف مع ما كان بين الحربين. وفى تفصيل التشابه وشرح وقائعه ونتائجه واحتمالات الانفجار، ستأتى كلمات الأسبوع القادم إن شاء الله.