الحرب.. وتهافت النخب الإسرائيلية
يحيى عبدالله
آخر تحديث:
الثلاثاء 13 فبراير 2024 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
الأصل فى النخب أنها تقود لا أن تنقاد، أن تنتج أفكارا خلاقة، لا أن تجتر أفكارا أكل عليها الدهر وشرب، أن تنأى عن الكذب والتهويل، لا أن تستمرئه وتروج له، أن تفعل ما تقول، لا أن تعيش حالة من الفصام بين الأقوال والأفعال، أن تتبنى خطابا إنسانيا، مغايرا للخطاب الغوغائى، أن تبشر بالسلام، لا أن تسجد للقوة؛ إلا أن «النخب» الإسرائيلية، يصيبها ما يصيب النخب السياسية من علل وأسقام. يرصد المقال مواقف نموذجين من هذه «النخب» تجاه حرب الإبادة التى تشنها إسرائيل ضد غزة.
خذ إليك، مثلا، الروائى، «إيلى عامير»، أحد أبرز الروائيين الإسرائيليين المعاصرين (1937م)، يهودى من أصل عراقى، تصنف مواقفه السياسية بحسب، «عنات أدلر» بأنها «يسارية معتدلة، وبأنه مستعد اليوم أيضا للتنازل عن أراض مقابل سلام، وبأنه مستعد للجلوس مع حماس أيضا على طاولة المفاوضات» («يديعوت أحرونوت»، 28/12/2023م)، ومع هذا، فإنه ما يزال أسير النظرة اللاهوتية، التقليدية، التى ترى أن اليهود جماعة بشرية فوق كل الجماعات البشرية الأخرى، بمن فيهم المسلمون، بالطبع: «هل نشأت (فى العراق) ولديك شعور بأنك من «الشعب المختار؟»، تسأله «عنات أدلر»، فيجيبها: «نعم، نشئت على أنى أسمى منزلة من المسلمين، وعلى أن إلهنا هو الأول، وعلى أننا أكثر موهبة منهم» («يديعوت أحرونوت»، 28/12/2023م). فى الحقيقة، ليست التنشئة فى البيت، وحدها، هى المسئولة عن هذه الفكرة المتعالية، فكرة «الاختيار»، كما يزعم «عامير»، وإنما المسئول الأول عنها هم المراجع الدينية اليهودية الكبرى، التى رسختها، وأصلت لها، إذ يقول الحاخام، «يهودا ليفا بن بتسلئيل»، (1512ــ 1609م. ولد فى براج) المعروف باسم «علامة براج»: «ليس هناك إنسان كامل سوى بنى إسرائيل (...) منزلة بنى إسرائيل من الأغيار مثل منزلة الأغيار من الحيوانات»، ويقول الحاخام، «يهودا اللاوى»، المعروف باسم، «أبو الحسن اللاوى» (1075ــ 1141م. ولد فى طليطلة بالأندلس)، فى كتابه الشهير، «الخوزرى»، أو «الحجة والدليل فى نصرة الدين الذليل»: «فى الطبيعة أربع مراتب ــ الجماد، والنبات، والحيوان، والناطق، وفوقها المرتبة الخامسة العليا الإلهية ــ مرتبة بنى إسرائيل»، أى إنه يرى أن اليهود مرتبة تسمو، فى حد ذاتها، فوق كل مراتب الأغيار والطبيعة.
وقد أرسى الحاخام، «موسى ابن ميمون» (1135ــ 1205م. ولد فى قرطبة بالأندلس) أحد أهم المراجع الدينية اليهودية، مبدأ عنصريا بغيضا فيما يتعلق بالأغيار، مفاده: «لا تنتشله ولا تغرقه»، حيث يقول: «إذا رأى شخص يهودى شخصا غير يهودى يغرق، فلا يجوز له أن ينقذه، كما لا يجوز له أيضا أن يدفعه ليغرق فى الماء»، ويقول الحاخام، «موشيه لوتساتو» (1707ـ 1744م. ولد فى فينسيا بإيطاليا): «تنقسم كل المخلوقات إلى اثنين: الأول، كل مخلوقات العالم، السفليين والعلويين؛ والثانى، عموم الجنس البشرى، أى، بنى إسرائيل الذين هم جنس إنسان حقيقى». (سفى رخليفسكى. «حمار المسيح»، إصدار «يديعوت أحرونوت»، 1998م). هذا ما يشكل وجدان الإسرائيليين، كافة، ويصوغ عقولهم، ومنهجهم فى التفكير، حتى يومنا هذا، لا فرق فى ذلك بين عوام ونخب.
• • •
من بين العلل الأخرى، التى تعانى منها «النخب» الإسرائيلية، علة الكذب وتهويل أحداث الماضى، والقفز على أسبابها الحقيقية، وإسقاطها على أحداث الحاضر، إذ يقارن، «عامير»، بين ما جرى فى السابع من أكتوبر 2023م واضطرابات وقعت فى بغداد فى مطلع شهر يونيو عام 1941م بين المسلمين واليهود، تسمى أحداث «الفرهود»، «بالغ رئيس الطائفة اليهودية فى تقدير عدد القتلى والجرحى من اليهود» خلالها، بحسب تقرير لجنة التحقيق الرسمية (نسيم رجوان. «موجز تاريخ يهود العراق، من سبى بابل إلى نزوحهم عام 1951م»، أورشليم ــ القدس، رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، 1998م)، متجاهلا سياقها التاريخى، المتمثل فى نشاط المنظمات الصهيونية السرية فى العراق، وتحريضها يهود العراق على الهجرة إلى فلسطين، وبثها روح التعصب الطائفى بينهم، وموالاة الاستعمار البريطانى لفلسطين. يقفز «عامير» على كل هذه السياقات التاريخية، ويتعامى عن كل موبقات الاحتلال، وعن الحصار المفروض على غزة لأكثر من سبعة عشر عاما، وعن ملايين اللاجئين، المشتتين فى مختلف بقاع الأرض، وعن التحرش المستمر بالمقدسات، ولا يرى سوى «التماثل» المزعوم بين الحدثين، إذ يقول فى حديثه إلى «عنات أدلر»: «آنذاك (خلال أحداث الفرهود) أيضا كانت الحال هكذا. كنت طفلا فى الرابعة، وأتذكر تفاصيل كل ما حدث فى العراق فى 1 يونيو 1941م. أتذكر كيف امتلأ كل الحى اليهودى الذى أقمنا فيه فى بغداد بمسلمين آثمين فجأة، أغاروا على البيوت، يقتلون وينهبون، كيف أحرقوا بيوتنا، كيف أمسكوا بالنساء والرجال والأطفال، يضربون ويغتصبون، وينكلون ويقتلون» («يديعوت أحرونوت»، 28/12/ 2023م). ثمة سذاجة بالغة فى التصور لدى «عامير»، الذى يرى أن تعامل العرب والمسلمين مع إسرائيل والنظرة إليها ينبعان مما يسميه بـ«الغيرة» من اليهود، إذ يقول، فى حديثه إلى «عنات أدلر»: «المسلمون عاجزون، بشكل تاريخى، عن فهم، كيف أن اليهود، الذين كانوا تحت النعال الإسلامية فى الدول العربية، قد نجحوا فى أن ينتصروا عليهم فى 48، و67، و73، وأن دولتهم هى الأقوى فى الشرق الأوسط. هذا الأمر يصيبهم بالجنون والغيرة التى تنهش القلب ولا تدع المرء مرتاحا» («يديعوت أحرونوت»، 28/12/ 2023م). هو يناقض نفسه عندما يزعم بأن اليهود كانوا، تحت «النعال الإسلامية»، بحسب تعبيره، حين يقول فى الحديث الصحفى المشار إليه سابقا: «هيمن اليهود ــ يهود العراق ـــ بالفعل على التجارة والصيرفة، وعلى المجالات المالية وعلى المهن الحرة مثل المحامين، والأطباء، وأساتذة الجامعات» («يديعوت أحرونوت»، 28/12/ 2023م). كيف، هيمنوا، إذا، وهم «تحت النعال؟!!!»، وفيما يتعلق بموقفه من حركة «حماس» ومن إمكانية التفاوض معها، فإن موقفه ــ وإن بدا ظاهريا، موقفا مغايرا وأكثر تقدما من مواقف النخب السياسية، التى تريد استئصال شأفتها، واستبعادها تماما من المشهد ــ موقف لا يختلف، فى جوهره، عن موقفها، من حيث ربطه بالمواقف الرسمية للدولة: «قلت فى السابق وأقول اليوم أيضا، إننى على استعداد للتفاوض مع كل من لديه استعداد للعيش معى فى سلام، بما فى ذلك مع حماس. لقد كانت عدو أبى وجدى فى العراق، وهى عدوى هنا، ولا بد من التعايش معها، ولذا إذا جاءت حماس وقالت أنا مستعدة لعمل سلام مع دولة إسرائيل وكانت الشروط التى تعرضها مقبولة من جانب دولة إسرائيل، عندئذ، أؤيد الجلوس مع حماس» («يديعوت أحرونوت»، 28/12/ 2023م).
• • •
نموذج ثان من نماذج النخب المتهافتة هو الشاعر، إليعاز كوهين، (1972م)، الذى نشأ فى بيئة دينية متطرفة، إذ تنتمى أسرته إلى حركة «جوش إيمونيم» ــ كتلة الإيمان ــ الاستيطانية، كما أنه نشأ فى إحدى المستوطنات، وتلقى تعليما دينيا، وانضم إلى عضوية زعامة شبيبة الصهيونية الدينية، ويشرف على تحرير مجلة أدبية، ينشر فيها شعراء المستوطنات أشعارهم، لكن، انتماءه إلى اليمين لم يحل بينه وبين طرح مبادرات، تبدو، للوهلة الأولى، تصالحية، وساعية إلى إيجاد حلول، فهو من مؤسسى حركة «أرض للجميع»، ومبادرة «دولتين ــ وطن واحد»، التى تسعى لخلق تعاون بين الإسرائيليين والفلسطينيين وليس الفصل بينهما داخل الوطن الواحد، كما أسس مع أحد الحاخامات حركة «عدالة» وحركة «أورشليم» ــ مستوطنون وفلسطينيون من أجل السلام»، ومركز «شوراشيم ــ جذور» للحوار، والمصالحة، وتبادل المعلومات بين المستوطنين والفلسطينيين فى منطقة «جوش عتسيون»، وغيرها. كان من المتصور أن يتطور لديه هذا الاتجاه التصالحى المزعوم، وأن يزداد رسوخا، لو أنه كان صادقا فيه، إلا أن السابع من أكتوبر 2023م جعله يتراجع عنه جملة وتفصيلا، وأن يرتد إلى الخيار الاستقوائى، وإلى نظرية الزعيم الصهيونى، زئيف جابوتنسكى، بشأن التعامل مع العرب، المعروفة باسم: «الستار الحديدى». يقول إليعاز كوهين، فى مقال كتبه فى صحيفة «ماكور ريشون» (8/12/2023م): «لقد عارضت تصريحات نتنياهو المتكررة بأننا «سنعيش على سيفنا إلى الأبد»، واعتبرتها ضد الحلم والأمل. رفضت رؤية الحقائق المجردة، تلك التى صاغها جابوتنسكى قبل مائة عام فى (مقال) «الستار الحديدى». لكن، طالما أن جيراننا من حولنا، وعرب البلاد، خاصة، لا يقبلون انتماءنا العميق إلى هذه الأرض وعودتنا إليها، فسنضطر إلى حمل السيف والبندقية والإف 35، وأن تتعاقب الأجيال حمل هذا السيف كما فى سباق التتابع». نظرة هذا النموذج إلى إمكانية تحقيق السلام هى نظرة المؤسسة الرسمية، عينها، بل هى نظرة السواد الأعظم من الإسرائيليين، القائمة على انتقاء مفاوضين مدجنين، واستبعاد، وشيطنة كل من يفكر فى مقاومة الاحتلال، إذ يقول: «كل من هم على شاكلة «حماس» أخرجوا أنفسهم من أسرة الشعوب، وحكموا على أنفسهم بالإبادة، ولم يعودوا بالتأكيد أهلا لحوار أو تصالح. حماس هى عماليق (أى يجب إبادتها بحسب فريضة توراتية)، وأنا لا أتردد فى كتابة ذلك الآن. هناك آخرون فى الإسلام المعتدل، فى التيار الصوفى والأحمدى، فى قطاعات من السنة ممن يؤمنون بحلف أبناء أبراهام». هذا هو تفكير «النخب» فى إسرائيل، سواء مما يسمى بـ«اليسار» أم من اليمين على حد سواء.