فجر المدن الغريبة
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 13 مارس 2019 - 11:25 م
بتوقيت القاهرة
أن تصحو فى مدينة أنت فيها غريب وقت شروق الشمس فتقف أمام نافذة ترى من خلفها شوارع لا تعرفها تبدأ بالتلون مع النور. هو يشبه شعورك حين تدخل بالصدفة إلى غرفة يتبادل فيها شخصان كلمات الغزل، معتقدين أن لا شاهد لهما. أشد الستارة قليلا لأنظر من زاوية إلى طرف الحى. طراز معمارى جديد، عادات لسكان البيوت لا أعرفها. أحب مراقبة الشبابيك، أحب أن أتخيل ما يدور فى منزل لا أعرف أصحابه ولا أعرف شكل غرفهم. يظهر أمامى ظل يبدو لى أنه يبحث عن شىء، يتحرك فى الظلمة ثم أراه يمشى وبيده فنجان كبير. فى الدقائق التى استغرقها صنعه لفنجان القهوة كانت الشمس قد ارتفعت قليلا وها أنا أرى فى الطابق الأسفل قبالتى طفلتين تتحركان فى ما يبدو لى أنه مطبخ. لا شك أن والدتها فى الخلفية تعد الفطور وتحثهما على الإسراع.
***
أرفع بصرى من جديد فى محاولة منى أن أفك شيفرة هذه المدينة الأوروبية الهادئة، هى ليست مدينة ذات أى سمعة، ليست مدينة الأنوار ولا عاصمة إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. ها هى الشمس تظهر أصلا هنا على استحياء رغم اقتراب فصل الربيع. كل ما حولى لونه رمادى، أو هكذا يهيأ لى من كثرة الغيوم. لم تقاوم الشمس الغيوم طويلا فعادت واختبأت بعد أن أعطت للمدينة إشارة الاستيقاظ.
***
فى طريقى إلى هذه المدينة التى أزورها لدواعى العمل، رافقتنى عدة أسر على الطائرة خمنت أنها أسر سورية يتم توطينها فى أوروبا. حمل أفراد الأسر معهم أكياسا وشنطا خفيفة رأيت من خلال فتحاتها أنها احتوت على ما جمعوه من أماكن إقامتهم قبل أن يغلقوا باب حياتهم المؤقتة فيها إلى الأبد، قبل أن ينتقلوا مما يسمى فى عرف التغريبة السورية بـ«بلاد الجوار» وينتقلوا إلى «بلاد اللجوء».
شغلتنى الأسر السورية طوال الرحلة، تمشيت فى الطائرة عدة مرات بحثا عن كلمات منهم قد ألتقطها فأشكل فكرة عن ماضيهم، عما تركوه هناك، فى سوريا وفى مكان إقامتهم المؤقت. للأمانة فقد كانت حركتهم وكلماتهم قليلة فى الطائرة، فلم أسمع الأب ينهر طفل ولم يظهر على الأم أى تعبير. نسجت فى خيالى قصة عن كل أسرة، كن أربع عائلات بتشكيلات مختلفة، فأمضيت ساعات الرحلة أمشى فى ممر الطائرة، أسترق النظر والسمع إلى أفراد العائلات وأسجل فى ذهنى تفاصيل تساعدنى على إعادة تركيب قصصهم. طبعا لم يكن ذلك تمرين فى الاستقصاء إذ إن لا أساس للقصص التى أحكيها عن العائلات سوى خيالى وما بتنا معتادين عليه من تفاصيل تكررت فى السنوات الأخيرة عن اللاجئين والحرب والنزوح.
***
هذه الصبية ذات الوجه النضر مثلا تجلس بين أربعة أطفال يبدو لى أنها أنجبتهم خلال أربع سنوات متتالية، فالفرق بين أحجامهم صغير. وجهها جميل خصوصا حين تميل برأسها نحو أحد أولادها لتهمس فى أذنه كلمات لا أسمعها إنما أتخيلها «يللا ماما قربنا، بكرا بتشوف بصير عندك رفقات جداد بالمدرسة وبتصير بتحكى ألمانى متلهم». زوجها شاب يجلس قرب أصغر أطفالهم، يمسك فى يده مسبحة حديثة الشكل، لا تشبه مسابح الشيوخ كما اعتدتها. أتخيل ما قد يدور فى ذهنه من قلق وترقب، اضطراب وشعور بالخلاص، نهاية وبداية له ولأسرته. قلبه يعتصر على والده الذى تركه فى «بلد الجوار»، فطلب اللجوء لم يشمل الرجل العجوز، لكنه، أى الوالد، بالغ فى تشجيع ابنه على الذهاب «ما تقلق على، أنا هون منيح وان شاء منرجع على بيوتنا. انت عندك أولاد وقدامك طريق لسه طويل، روح الله يرضى عليك ويوفقك بكل خطوة». مال الشاب على يد أبيه العجوز يقبلها ويأخذ منه الرضا فلم يرَ الدمعة التى سقطت على شعره الأسود.
***
هنا فى المدينة الهادئة يسرع الآن من أراهم من خلف شباكى من خطواتهم فى شوارع بدأت تزدحم. أرى أطفالا فى طريقهم إلى المدرسة وأتذكر أطفال الطائرة فى الليلة السابقة. أظن أنهم كانوا قد تلقوا تعليمات صارمة من أهلهم بعدم إحداث أى حركة أو صوت لا مبرر له، فقد جلسوا بهدوء تام طوال الرحلة يكاد يشبه حالة الذهول. هم أيضا يرون المدينة الغريبة تستيقظ أمامهم، تظهر معالم قد تكون بعيدة كل البعد عما ألفوه فى سنواتهم المعدودة، سنوات أمضوا معظهما أصلا خارج المألوف فى مكان معلق ينتظرون أن يخرجوا منه فكل شىء فيه يصرخ «أنا لست مكانكم الدائم».
***
أنا لا أعرف أى شىء عنهم ومعظم ما نقلته هنا إنما هو من صنع خيالى، لكننى أتمنى أن تكون الأم تنظر هى الأخرى إلى شروق الشمس من خلف نافذة فينشرح قلبها ولو للحظات. أتمنى أن يكون الوالد الشاب مرتاحا فى يومه الأول هنا، وأتمنى، وذلك فى المقام الأول، أن ينشرح صدر الوالد العجوز الذى بقى معلقا هناك، ليس فى بيته ولا فى مكان باستطاعته أن يشعر فيه بالاستمرارية. ذلك الاختيار هو من يعصر قلبى فى الدرجة الأولى.